“بدلة المرحوم” .. بقلم / المفكر الدكتور “محمد حسن كامل” رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
لفظ الملياردير أنفاسه الأخيرة وهو يرتدي بدلته القديمة الرثة والتي تنبعث منها روائح كريهة , مات في بدلته بعد أن ماتت عليه بدلته , لقد أرتدى بدلته تلك دون إنقطاع أكثر من نصف قرن .
وانتهت مراسم تشيع الثري من أحد قصوره المتعددة , أظنه القصر الأكبر .
وتقاطر وجهاء العالم لواجب العزاء في هذا الثري .
كان العزاء من طراز أخر ولاسيما وأن المرحوم كان من أثرياء العالم .
وختم المقرئ أخر أية في سرادق العزاء ….وإنصرف الناس…. وخلت أرملة المرحوم بمفردها في حجرتها …., تسللت رائحة بدلة المرحوم الكريهة إلى أنفها فأسرعت برميها من الشباك , تنهدت قليلاً وقالت : لقد إرتحت منه ومن بدلته , سوف أنعم بتلك الثروة وأتزوج من حبيبي الذي حرمني منه هذا الكهل الذي يكبرني بثلاثين عاماً .
وراحت في نوم عميق .
كانت ليلة قارصة البرد , شديدة المطر .
مرّ متسول بجانب القصر وهو يرتعد من البرد , بحث عن مكان يحتمي به من البرد فلم يجد إلا شرفة من شرفات قصر المرحوم .
جلس جلسة القرفصاء …..وراح يحلم فقط بالدفء ولقمة ينعم بها على معدته التي التصقت جدرانها من الجوع .
هذا كان حلمه الأعظم في الوجود .
تحسس تحت قدميه فوجد بدلتة المرحوم ….حمد الله على تلك الهدية الفخمة التي صادفته وكانت في إنتظاره .
لبس بدلة المرحوم …..لم يعبأ بالرائحة ….المهم الدفء …ثم انه لم يرتدِ بدلة في حياتة قط .
وخلد في نوم عميق ….بعد أن نامت معدته التي تعبت من إعلان الجوع .
نام هو وبدلته ومعدته .
رأى فيما يرى النائم أن المرحوم صاحب البدلة زاره وقد طلب منه عدم خلع تلك البدلة طوال حياته مقابل ثروة لا يحلم بها ربما تفوق ثروة المرحوم .
لم يقص الناسك رؤيته على أحد , وعاش في البدلة والبدلة عاشت فيه .
وتغيرت الأحوال ….أرملة المرحوم تزوجت حبيب العمر الذي سلب منها كل شئ وألقى بها في الشارع دون مأوى .
أما الناسك فقد تبدلت أحواله وأصبح من الوجهاء والأثرياء وأصحاب النفوذ .
أشترى الناسك كل قصور المرحوم وكل متاعه .
وجاءت أرملة المرحوم تطلب عملاً كخادمة لدى سيد القصر الجديد .
وكان اللقاء بينهما …., وتسربت رائحة بدلة المرحوم إلى أنفها , تلك الرائحة التي سبقت صاحب البدلة الجديد , وسرعان ما تذكرت بدلة المرحوم ورائحتها الكريهة التي تعرفها حق المعرفة .
فقالت للصاحب القصر الجديد : هذه بدلة المرحوم زوجي لقد ألقيتها من نافذتي يوم وفاته .
قال لها : وأنا كنت تحت النافذة .
هكذا الحياة وتلك حكمة الله ….!!
وقرأ قول الله تعالى :
(( قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
سورة أل عمران الأية 26