شخصيات

سلسلة رجال من مصر بقلم المهندس/ طارق بدراوى ** طلعت حرب باشا **

سلسلة رجال من مصر
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
** طلعت حرب باشا **
طلعت حرب باشا هو رجل الإقتصاد المصرى الكبير والذى ولد في يوم 25 نوفمبر عام 1867م بمنطقة قصر الشوق في حي الجمالية وفي رحاب مسجد الإمام الحسين وكان والده موظفا بمصلحة السكك الحديدية الحكومية وهو ينتمي إلى عائلة حرب بناحية ميت أبو علي من قرى منيا القمح وتتبع حاليا مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية كما كانت والدته تنتسب إلى عائلة صقر وهي عائلة تنتمي لقرية تابعة لمنيا القمح أيضا وقد حفظ طلعت حرب القرآن الكريم في طفولته ثم إلتحق بمدرسة التوفيقية الثانوية بالقاهرة وبعد حصوله علي شهادته منها إلتحق بمدرسة الحقوق الخديوية في شهر أغسطس عام 1885م وحصل على شهادة مدرسة الحقوق في عام 1889م وكان من أوائل الخريجين وقد رزقه الله بعدد 4 بنات إناث وذكر واحد وهم فاطمة التى توفيت عام 1976م وعائشة التي توفيت عام 1988م وخديجة التى توفيت عام 1997م والصغرى هدى والتي توفيت عام 1996م وحسن والذى توفى فى مطلع شبابه وقد إهتم بالإضافة لدراسة الحقوق بدراسة الأمور الإقتصادية علاوة علي إهتمامه بالإطلاع على العديد من الكتب في مختلف مجالات المعرفة والعلوم كما قام بدراسة اللغة الفرنسية حتى أجادها إجادة تامة تحدثا وكتابة وقد قام بتأليف بعض الكتب منها تربية المرأة والحجاب وفصل الخطاب في المرأة والحجاب ومصر وقناة السويس وتاريخ دول العرب والإسلام وقد عمل طلعت حرب بعد تخرجه مترجما في القسم القضائي بالدائرة السنية ثم أصبح رئيسا لإدارة المحاسبات ليتدرج بعدها إلى وظيفة مدير لإدارة مكتب المنازعات ثمّ توالى نجاحه إلى أن صار مديرا لقلم القضايا وفي عام 1905م عمل كمدير لشركة كوم إمبو ضمن مقرها الرئيسي في القاهرة ثمّ إنتقل إلى إدارة الشركة العقارية المصرية ليجعلها شركة وطنيّة غالبية أسهمها للمصريين وحيث أنه لم يكن هناك نظام مالي يدعم المصريين خاصة الفلاحين والفقراء علي الرغم من إنشاء البنك المصري والبنك الأهلي لكنهما كانا مخصصين لتمويل الأجانب فقط كما تسببت ظروف الإستعمار وقتها في إستنزاف موارد الإقتصاد المصري لمصالحهم فقط لذا فقد بدأ طلعت حرب بداية من عام 1906م في الدعوة من أجل إنشاء نظام مالي مصري خالص لخدمه أبناء الوطن وللسعي أيضا للتحرر من القيود الإستعمارية الإقتصادية وقد لقيت دعواه إستجابة واسعة بين جموع المصريين .
وكانت فكرة إنشاء بنك مصري وطني بمثابة حلم يراود الكثيرين منذ أيام محمد علي باشا فبالرغم من أن محمد علي قبل وفاته أمر بإنشاء بنك مصرى برأسمال قدره 700 ألف ريال لكن مشروع البنك إنهار لما أصابه المرض بعد أن ضاعت ثمرة حروبه عليه نتيجة التواطؤ الدولي على حصار قوته وقصر نفوذه علي مصر والسودان فقط ثم عادت فكرة تأسيس بنك مصرى إلى الحياة مرة أخرى بعد أن دعا إليها أمين شميل في مقال له بجريدة التجارة في يوم 26 من شهر أبريل عام 1879م في أواخر عهد الخديوى إسماعيل وإجتمع على أثر ذلك عدد من أعيان مصر لبحث هذه الفكرة غير أن الخلاف الذي نشب بين الجمعية الوطنية المصرية التي أنشأها الخديوي إسماعيل وبين الخديوي توفيق خليفته والتي وقعت في أعقابه الثورة العرابية عام 1881م أعاق إتمام الفكرة ويحكي صديق عرابي الشهير مستر بلنت في مذكراته عن الثورة العرابية عن عزم عرابي إنشاء بنك تسليف للفلاحين لولا أن الإحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882م داهم الحكومة العرابية وقضى علي المشروع في مهده ثم عادت فكرة تأسيس بنك مصرى إلى الظهور مرة اخرى عندما بدأ عمر لطفي بك عضو الحزب الوطني ووكيل مدرسة الحقوق في إلقاء محاضرات في نادي المدارس العليا بداية من اليوم الأول في شهر نوفمبر عام 1908م عن نظام التعاون والتسليف في ألمانيا وإيطاليا لكن الفكرة عانت من الخلاف بين التيارات التقدمية والرجعية ومع ذلك إستطاع طلعت حرب في نفس العام عام 1908م تأسيس شركة سميت شركة التعاون المالي برأسمال مصري خالص وذلك بهدف تقديم العديد من القروض المالية للشركات الصغيرة المتعسرة ماديا وساعده علي ذلك عودة الدكتور فؤاد سلطان من الخارج والذي كان يعد أحد أبرز الخبراء الإقتصاديين حينذاك حيث قام بتقديم الدعم الكامل لمساعي طلعت حرب وفي عام 1911م قام طلعت حرب بإصدار كتابه علاج مصر الإقتصادي الذي طرح من خلاله فكرته في ضرورة إنشاء بنك للمصريين لخدمه المشاريع الإقتصادية في مصر والنظر في المشكلات الإجتماعية وتحمس الكثيرون لفكرته بالرغم من معارضة السلطات الإنجليزية وقرر المجتمعون بالفعل تنفيذ فكرة طلعت حرب في إنشاء بنك مصرى خالص برأسمال مصرى مع عدم مشاركة أى أجنبي فيه لكن هذه الجهود تعطلت بعض الوقت بسبب قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م وعادت فكرة إنشاء البنك عقب إنتهاء هذه الحرب عام 1918م وقيام ثورة عام 1919م في مصر حيث أخذ طلعت حرب ينشر رسالة في كل المحافل داخل المجتمع المصرى تتلخص في ضرورة حث وتشجيع المصريين وتشجيعهم علي إستثمار أموالهم ومدخراتهم من أجل تحقيق النمو الإقتصادي والإجتماعي للبلاد وتمكن فعلا من إقناع عدد 126 فردا من المصريين الوطنيين ببدء الإكتتاب من أجل إنشاء البنك وبلغ مجموع مبلغ الإكتتاب 80 ألف جنيه مصرى تمثل عدد 20 ألف سهم حيث كان سعر السهم 4 جنيهات مصرية وكان أكبر مساهم في هذا الإكتتاب هو عبد العزيز المصرى بك أحد أعيان مركز مغاغة بمحافظة المنيا بصعيد مصر فقد قام بمفرده بشراء عدد 1000 سهم وفي يوم 13 أبريل عام 1920م نشر في جريدة الوقائع المصرية مرسوم تأسيس شركة مساهمة مصرية بإسم بنك مصر وبذلك أنهي طلعت حرب مقولة الإستعمار البريطاني والتي كانت تتردد في ذلك الوقت وهي أن المصري لايعرف إلا الإستدانة حيث إستطاع بنك مصر تحفيز الإدخار لدي كل المصريين وتشجيعهم علي ذلك كما قام البنك بتوزيع حصالات على تلاميذ المدارس الإبتدائية لتحفيزهم علي الإدخار ثم بعد فترة كان يأخذ مافيها ويفتح لهم دفاتر توفير بالبنك .
وقد نص العقد الإبتدائي للشركة علي أن الغرض من تأسيس البنك هو القيام بجميع أعمال البنوك من فتح الحسابات والإعتمادات المالية وقبول الأمانات والودائع وبيع وشراء السندات والأوراق المالية والإشتراك في إصدار السندات والإقراض والتسليف بضمان البضائع والمستندات والأوراق المالية وغير ذلك مما يدخل في أعمال البنوك بلا قيد أو تحديد وأنه يجوز زيادة رأسمال البنك بقرار من الجمعية العمومية للمساهمين وأن يكون للبنك مجلس إدارة يتولي إدارته يتكون من 9 أعضاء علي الأقل و15 عضوا على الأكثر تقوم بإنتخابهم الجمعية العمومية للمساهمين ومن يتم إنتخابه لابد وأن يكون مالكا لعدد 250 سهما علي الأقل ولا يجوز له التصرف فيها طوال مدة عضويته ولا يجوز لمن يمتلك أقل من 5 أسهم أن يكون عضوا في الجمعية العمومية للبنك وفي مساء يوم الجمعة 7 مايو عام 1920م تم الإحتفال بتأسيس البنك وتم إنتخاب أول مجلس إدارة له وكان يتكون من أحمد مدحت يكن باشا رئيسا لمجلس الإدارة ويوسف أصلان قطاوى وكيلا ومحمد طلعت حرب بك نائب للرئيس وعضو مجلس الإدارة المنتدب والدكتور فؤاد سلطان بك عضو مجلس الإدارة المنتدب بالإنابة أما الأعضاء فكانوا عبد الحميد السيوفي وعلي ماهر وعبد العظيم المصري وإسكندر مسيحة ويوسف شيكوريل وعباس بسيوني الخطيب وألقي طلعت باشا حرب يومها خطبة في دار الأوبرا المصرية بمناسبة بدء أعمال البنك وكان أول مقر له في شارع الشيخ أبو السباع بالقاهرة وبدأت رحلة بنك مصر منذ ذلك اليوم في تمصير الإقتصاد المصري والقيام بدور كبير في تنميته وتطويره حيث ساهم البنك في تأسيس مجموعة من الشركات المستقلة في العديد من المجالات والتي تدور في فلكه وأدت سياسة البنك بالفعل إلى الكثير من التطورات الكبيرة التي عادت بالنفع والفائدة علي الإقتصاد الوطني المصرى ومضت به قدما في إتجاه تحريره من قبضة وسطوة الأجانب الذين كانوا يسيطرون عليه ويوجهونه إلي ما يحقق لهم خدمة مصالحهم الشخصية وبعد عدة سنوات وفي عام 1927م تم تأسيس مقر فخم للبنك بالجزء الجنوبي من شارع عماد الدين والذى يعرف حاليا بشارع محمد فريد ليكون المبني الرئيسي لبنك مصر والذى قام بتصميمه المهندس المعمارى الإيطالي أنطونيو لاشياك الذى كان يعمل في مصر في ذلك الوقت وذاع صيته ونال شهرة واسعة نظرا لقيامه بتصميم وتنفيذ عدد من القصور الملكية منها قصر الطاهرة وقصر الأمير يوسف كمال وقصر الأمير سعيد باشا حليم وبعد سنوات طويلة تم إنشاء مبني آخر جديد يسمي برج بنك مصر إلي جواره يتكون من بدروم ودور أرضي وميزانين وعدد 24 طابقا غير أدوار الخدمات أعلاه وذلك لكي يستوعب إدارات البنك المختلفة وذلك بعد أن ضاق المبني القديم بها بعد توسع أعماله وزيادة عدد فروعه سواء بالقاهرة أو عواصم ومدن المحافظات والمبني القديم للبنك يعد مبنى أثري حيث تم تسجيله في عداد الآثار الإسلامية والقبطية بقرار صادر من مجلس الوزارء برقم 1776 لعام 1992م وهو يرمز إلى مرحلة تاريخية فارقة في التاريخ المصري الحديث حيث يسطر هذا المبني تفاصيل بطولة الإقتصادى المصرى الكبير طلعت حرب باشا في تحرير الإقتصاد المصري من سيطرة الأجانب والعمل على إستقراره كما يمثل أهمية فنية بما يحمله من عناصر معمارية جمالية وفي عام 2014م تم ترميم وإصلاح هذا المبني بالإشتراك بين وزارة الآثار والإدارة الهندسية ببنك مصر وشملت هذه العملية إجراء عمليات نظافة شاملة للواجهات نظرا للكثافة المرورية بالشارع وما تنتجه من تأثير ضار مباشر على حالة المبنى كما تم إجراء أعمال تنظيف وصيانة وترميم للشبابيك بالواجهة الرئيسية بالإضافة إلى إعادة الدهانات بإستخدام أحدث المواد وبنفس الألوان المستخدمة قديما بالإضافة إلى إجراء أعمال الترميم الدقيق على الواجهة وإزالة مظاهر الصدأ عن عناصرها النحاسية بالإضافة إلى تنظيف قطع الفسيفساء المزينة للمدخل الرئيسي للمبني .
ومن الأمور التي يجب ملاحظتها أن سلطات الإحتلال البريطاني لم تحاول منع قيام هذا البنك المصري أو وضع العقبات في طريق إنشائه حينذاك على الرغم من أنه قام لينافس البنك الأهلي الذي كان يضمن لسلطات الإحتلال الإنجليزى في مصر السيطرة الكاملة والتحكم التام في الإقتصاد المصرى حيث كان الشارع المصري في ذلك الوقت في حالة ثورة وإحتقان وغليان شديد في أعقاب قيام ثورة عام 1919م فلم تشأ سلطات الإحتلال أن تفجر الوضع مرة أخرى مثل ما حدث عند إعتقال سعد زغلول باشا ورفاقه من قبل كما أن الإنجليز ربما رأوا أن بنك مصر برأس ماله الصغير وقلة خبرة المصريين في أعمال البنوك لن يستطيع الصمود طويلا في المنافسة وأنه سرعان ما سوف يقع ويغلق أبوابه فلا داعي لدخول معركة ضد الرأي العام لا حاجة ولا لزوم لها والوقت غير مناسب لها وقد وضع طلعت باشا حرب عدة محاور لتكون هي الهدف الرئيسي من تأسيس البنك وهي أن يكون رأسمال البنك مصريا خالصا وأن تكون إدارته وكوادره وموظفيه من المصريين وأن تكون لغة التعامل مع البنك هي اللغة العربية إلي جانب البدء في عمليات إستثمار صناعي جنبا إلى جنب مع الإستثمار الزراعي وأن تكون المصانع التي سيتم إنشاؤها معتمدة علي الإنتاج الزراعي في المقام الأول مما يحقق حركة تنموية للإقتصاد القومي وأن تكون المصانع علي مقربة من مراكز إنتاج الخامات الزراعية وعليه فقد قام البنك بإنشاء مصانع الغزل والتسيج بالمحلة الكبرى وسط الدلتا ووسط زراعات القطن وكذلك مصانع الزيوت والصابون بطنطا وكفر الزيات كما قام البنك أيضا بإنشاء مصانع للغزل والنسيج بمدينة كفر الدوار بمحافظة البحيرة وفي خلال الفترة من عام 1920م وحتي عام 1960م أنشأ البنك عدد 26 شركة في مجالات إقتصادية مختلفة شملت الغزل والنسيج والتأمين والنقل والطيران والسياحة وصناعة السينما فكان من تلك الشركات شركة مصر للغزل والنسيج وشركة مصر للصباغة وشركة مصر للتأمين وشركة مصر للطيران وشركة مصر للسياحة وشركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح وشركة مصر للفنادق وشركة مصر للكيماويات وشركة بيع المصنوعات المصرية وشركة مصر للنقل البرى وشركة مصر للنقل النهرى وشركة مصر للملاحة البحرية وشركة مصر للألبان والتغذية وشركة ستوديو مصر للتصوير السينمائي وكان ستوديو مصر آنذاك هو الوحيد فى العالم الذى ينتج أفلاما عربية وكان المنافس لإستوديوهات هوليوود فى الشرق حيث قام بنك مصر بشراء جميع المعدات السينمائية الخاصة به بمبلغ قدره 244 جنيها و915 مليما علي إعتبار أنها أدوات مستعملة من المخرج محمد بيومى الذى كان يعمل مصورا ومؤلفا وممثلا ومنتجا مصريا حيث كان يعد من رواد السينما المصرية ومؤسس فرقة وادى النيل مع الفنان بشارة واكيم ووافق بيومى بالرغم من أن المبلغ كان أقل كثيرا من ثمنها الحقيقى البالغ 4 آلاف جنيه ويقول المخرج محمد بيومى عن هذا الأمر تنازلت عن مصنعى لبنك مصر لحساب شركة مصر للتمثيل والسينما وإلى هنا إنتهت رسالتى وتحققت أمنيتى وأصبحت السينما من الصناعات المصرية المزدهرة ومبعث الرزق لكثير من المصريين ودعامة من دعامات الإقتصاد المصري وكان من أول أفلام ستوديو مصر فيلم وداد لسيدة الغناء العربي أم كلثوم ولكن كان هناك قبل عرض الفيلم الأول فيلم وثائقى عن الحجاج للتوعية والإرشاد .
وقد أدت السياسة الرشيدة الإقتصادية لطلعت باشا حرب إلى تحقيق نتائج عظيمة عادت بالنفع الكبير علي عجلة الإقتصاد المصرى وأصبحت مثلا منتجات شركات الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى خاصة الأقمشة القطنية من أجود أنواع الأقمشة في العالم حيث تصنع منها الملابس القطنية مثل القمصان والجلاليب والمفروشات والتي نالت شهرة عالمية في الخارج وكانت تطلبها كل دول أوروبا وإلي جانب ماسبق كان طلعت حرب يتطلع لقيام بنك مصر بدور إقتصادى كبير في الأقطار العربية مثلما قام بهذا الدور في مصر إلي جانب فتح مجالات أخرى لنشر فكرة البنك ومزيد من التعاون المشترك بين الدول العربية خاصة أنه قد تمتعت مشاريع وإنجازات طلعت حرب مع بنك مصر بصيت واسع في العديد من الدول العربية المجاورة وخاصة أنها كانت تعاني من هيمنة الإقتصاد الأجنبي عليها وعدم وجود أنظمة مالية وطنية مثلما كان الحال في مصر قبل إنشاء بنك مصر وفي شهر ديسمبر عام 1935م قام طلعت حرب بزيارة بلاد السودان وإستطاع أن يلتقي بالحاكم العام لها وفي بداية عام 1936م قام بزيارة الحجاز وساهم في إستكمال مستشفي جدة ومستشفي مكة المكرمة وساهم أيضا في تأسيس مرفق الإسعاف الكامل في مكة المكرمة كما كانت العملة الحجازية تعاني من الإضطراب صعودا وهبوطا في مواسم الحج نتيجة تغير أسعار صرف العملات الأجنبية في جدة مما دفع طلعت حرب لإقناع الحكومة بقيام بنك مصر بتحصيل تكلفة الحج من الحجاج المصريين قبل سفرهم ثم يتم سداد التكلفة دفعة واحدة على أساس قاعدة الذهب مما ساهم في إستقرار العملة كما قامت الحكومة العراقية بتوجيه دعوة له فقام بزيارة العراق ثم توجه بعدها إلى المعرض العربي بدمشق ثم زار بيروت وأسفرت الزيارة عن تأسيس بنك مصر سوريا لبنان كما كان طلعت حرب يتمتع بعضويات مجالس إدارات شركات أجنبية قبل تأسيس بنك مصر وساهمت هذه العلاقات في فتح أبواب جديدة للتعاملات الخارجية للبنك حيث قام في يوم 22 نوفمبر عام 1936م بتأسيس بنك مصر فرنسا في العاصمة الفرنسية باريس .
وهناك واقعة هامة كان بطلها طلعت حرب باشا وهي أنه في عام 1930م في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا فوجئ الزعيم مصطفي النحاس باشا بقرار غريب أصدره إسماعيل صدقي فقد قرر تخفيض معاشه من 135 جنيهاً إلي 67 جنيهاً وهذا المعاش كان كل ما يحصل عليه وليس لديه مورد سواه حيث كان قد أنفق كل مدخراته من المحاماة أيام إشتغاله بها في شئونه وشئون عائلته المكونة من 9 أشخاص هم شقيقته الأرملة وأولادها وكانوا أربعة ذكور وأربع بنات وكان النحاس باشا هو المسئول عنهم وعن متطلباتهم وتعليمهم وكان المعاش يكفي بالكاد حيث كان لديه مربية إيطالية تتعهد الصغار وكان يعطيها الجزء الأكبر من المعاش لتنفقه عليهم وقد وقع خبر تخفيض المعاش عليه وقعا سيئا وقال كما جاء في مذكراته التي رواها لسكرتيره الخاص محمد كامل البنا ألا يكفي هذا الرجل ما يفعله من فساد في البلد وفي حزب الوفد لكي يلجأ إلي أخطر أنواع الحرب في الرزق وإحتار مصطفي النحاس باشا في هذا المأزق وقد رفض تماما أن يحدث أحدا بما حدث له حتي لا يصروا علي مساعدته ماديا وطرأت عليه فكرة أن يزور طلعت باشا حرب في بنك مصر ليحصل علي سلفة وحدثه في أمره هذا من أجل الحصول علي قرض ليرفع قضية ضد الحكومة وقال النحاس باشا إن البنك عادة يطلب ضامنا من الموسرين طبقا لقانون البنك ولكن طلعت باشا رد عليه ياباشا هذا كلام لا يصلح إذا كانت مصر كلها ونحن من أبنائها قد إئتمناك علي قضيتنا أفلا نأتمنك علي عدة آلاف من الجنيهات وقام بإقراضه خمسة آلاف جنيه وقد تم ذلك دون أن يشعر أحد من أعضاء الهيئة الوفدية الذين بادروا جميعاً لعرض ما يطلبه النحاس باشا من أموال ولكنه قال لا توجد لدى أي مشاكل مالية لأن طلعت حرب باشا حل المشكلة علي أحسن وأكمل وجه ورفع النحاس باشا القضية ضد الحكومة وإستمر نظرها عامين ثم حكمت المحكمة بأحقيته في المعاش الكامل وقررت صرف كل المتجمد ومن ثم فقد سارع بسداد القرض إلي بنك مصر وهذه أيضا حكاية زعيم وطني تعرض لمحنة وتجاوزها كما يتجاوزها أي وطني مخلص ويكفي قول طلعت حرب له لقد إئتمنتك الأمة علي قضيتها أفلا يأتمنك البنك علي بضعة آلاف من الجنيهات وعندما حصل علي مستحقاته المتأخرة سارع برد القرض بينما في ظل العهود التالية كم من كبار رجال الدولة وكبار رجال الأعمال حصلوا علي قروض ولم يسددوها وهذا هو الفرق بين عهد عهد وبين رجال ورجال .
وإلي جانب النشاط الإقتصادى لبنك مصر فإن البنك يولي منذ إنشائه عام 1920م إهتماما كبيرا بدعم خطط التنمية الإجتماعية في مصر حيث تعد المسئولية الإجتماعية إحدى أهم المحاور الرئيسية التي يؤمن بها البنك والتي من خلالها شارك ومايزال يشارك في العديد من الأنشطة الداعمة للتنمية الإجتماعية في مصر لذا قام البنك بإنشاء مؤسسة غير هادفة للربح هي مؤسسة بنك مصر لتنمية وخدمة المجتمع وهي مسجلة بوزارة التضامن الإجتماعي وتعتبر تلك المؤسسة ذات كيان قانوني مستقل عن البنك يديرها مجلس للأمناء وتتلخص أهدافها في التركيز على دعم وتنمية وتطوير مجالات الصحة والتعليم والثقافة والتنمية الإقتصادية وحماية البيئة ومساندة ودعم المجتمع المدني في تنفيذ المشروعات التنموية ومساندة ودعم الأنشطة ذات التأثير القوى على التنمية والتي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني وتقديم المنح الدراسية لطلبة الجامعة المتفوقين وتقديم الدعم المالي وكافة أوجه الدعم الأخرى لمراكز البحث العلمي والمدارس والجامعات والمستشفيات العامة ومساعدة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة للعيش بشكل طبيعي وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققه بنك مصر والإنجازات الإقتصادية الكبيرة التي قام بها إلا أن الأزمات المفتعلة من قبل سلطات الإحتلال الإنجليزي وبوادر قيام الحرب العالمية الثانية قرب نهاية عام 1939م أدت إلى حالة من الكساد والركود الإقتصادي ودفعت المخاوف الكثيرين لسحب ودائعهم لدى بنك مصر مما تسبب في أزمة سيولة لدى البنك ومما زاد الأزمة سحب صندوق توفير البريد لكل ودائعه من البنك ورفض المحافظ الإنجليزي للبنك الأهلي وقتها أن يقرضه بضمان محفظة الأوراق المالية وكان رئيس مجلس الوزراء حينذاك هو علي ماهر باشا وعندما ذهب طلعت حرب باشا إلى وزير المالية في تلك الحكومة حسين سري باشا من أجل حل هذه المشكلة وطلب منه إما أن تصدر الحكومة بيانا بضمان ودائع الناس لدى البنك أو أن تحمل البنك الأهلي على أن يقرض بنك مصر مقابل المحفظة المالية له أو أن تأمر بوقف سحب ودائع صندوق توفير البريد من البنك إلا أن حسين سري باشا رفض كل هذه الحلول بإيعاز من على ماهر باشا رئيس الوزراء بسبب قيام طلعت حرب بمساندة خصمه مصطفي النحاس باشا من قبل وإقترح الوزير حل لهذه الأزمة لكنه إشترط تقديم طلعت حرب لإستقالته من البنك فقبل الرجل العظيم على الفور هذا الشرط من أجل إنقاذ البنك الذى أسسه وقام علي أكتافه وقال كلمته المشهورة مادام في تركي حياة للبنك فلأذهب أنا وليعيش البنك وتم تعيين الدكتور حافظ عفيفي خلفا له كرئيس لمجلس إدارة البنك وعقب إستقالته من إدارة بنك مصر إنتقل طلعت حرب للعيش في قرية العنانية في مركز فارسكور بمحافظة دمياط حيث عاش بعيدا عن الأضواء إلي أن توفى في يوم 13 من شهر أغسطس عام 1941م عن عمر يناهز 74 عاما بالقاهرة وأُقيمت جنازته بمنزله الموجود في شارع رمسيس وحضر الجنازة كل من مندوب الملك والزعيم الوطني مصطفى النحاس باشا والعديد من الشخصيات السياسية مثل أحمد ماهر باشا وأحمد حسنين باشا وشيخ الجامع الأزهر الشريف محمد مصطفى المراغي ووكيل بطريكية الأقباط ومفتي الديار المصرية وشيخ المشايخ الصوفية والعديد من كبار الموظفين بالحكومة والمفوضيات الأجنبية وأعضاء مجلس إدارة وموظفي بنك مصر كما نعاه العديد من الشعراء والأدباء والكتاب بقصائد ومقالات رثاء مثل عباس محمود العقاد وإحسان عبد القدوس وصالح جودت .
وقد حصل هذا الرجل العظيم علي العديد من مظاهر التكريم في حياته وبعد مماته ففي عام 1931م وعقب إفتتاح شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى منحه الملك فؤاد الأول لقب صاحب السعادة ورتبة الباشوية كما قام ملك السعودية الراحل الملك عبد العزيز آل سعود بإهدائه كسوة باب الكعبة المشرفة عام 1937م تقديرا لجهوده الكبيرة في إقامة المشروعات التنموية الكبرى بالمملكة العربية السعودية آنذاك والتى كان من أهمها إنشاء طريق جدة وفندق خاص بجدة أيضا وإنشاء طريق يسهل حركة الحجاج بمكة المكرمة وتنظيم رحلات الحج عن طريق شركاته وأيضا تكريما لهذا الرجل العظيم تم في عام 1960م إطلاق إسمه علي شارع من أهم شوارع وسط مدينة القاهرة والذى يمتد من ميدان التحرير حتي الميدان الذى سمي بإسمه أيضا وتلتقى عنده شوارع قصر النيل ومحمد صبرى أبو علم باشا ومحمود باشا بسيوني والذى يتوسطه تمثال بالحجم الطبيعي لهذا الرجل العظيم كما تم إطلاق إسمه علي العديد من الميادين ببعض المحافظات منها الميدان المعروف بإسمه في مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية كما تم تسمية بعض الشوارع الهامة في العديد من عواصم المحافظات مثل الجيزة والإسكندرية والزقازيق والمنصورة وشبين الكوم والسويس بإسمه أيضا وفي عام 1980م وفي الذكرى الستين لتأسيس بنك مصر تم تكريم إسم طلعت حرب باشا حيث قام الرئيس الراحل محمد أنور السادات بمنح إسم طلعت حرب قلادة النيل العظمي تكريما لمجهوداته العظيمة في خدمة الإقتصاد المصرى كما قامت هيئة البريد المصرى عام 1970م وعام 1992م أيضا بإصدار طابع بريد تذكارى تخليدا لذكراه وفي عام 1995م قامت وزارة الثقافة المصرية بإنشاء مركز طلعت حرب الثقافي كما أنشأت أيضا مكتبة تحمل إسمه وإلي جانب ذلك تم إطلاق إسمه علي العديد من المدارس الحكومية في القاهرة والعديد من المحافظات كما أطلق إسمه علي النادى الخاص بالعاملين بالبنك وأسرهم والذى يقع بمنطقة إمبابة بمحافظة الجيزة وفي الذكري التسعين لإنشاء بنك مصر خلال عام 2010م قام البنك بإفتتاح متحف خاص يعرض مشوار حياته ومقتنياته الخاصة وإنجازاته وأعماله مع البنك وقد تم دعوة أسرة طلعت حرب باشا وأحفاده لحضور حفل إفتتاح هذا المتحف والذى تم وضع أهم متعلقاته الشخصية به مثل العصا الخاصة به والمنشة وبعض الأدوات الفضية وأيضا من ضمن مقتنيات هذا المتحف علبة لعبة الدومينو التى كان يهواها ويجلس حولها أهم رجال الصناعة والتجارة سواء يهودا أو مسيحيين أو مسلمين فى مصر في العديد من الأمسيات ليتعرف من خلالها علي أحوال السوق المصرى والوضع الإقتصادى كما يوجد بالمتحف أيضا عدد 13 مجلدا لوصف مصر بها خرائط ومشروع قناة السويس .

المهندس طارق بدراوي شهاب الدين

زر الذهاب إلى الأعلى