مقالات

كنوز عالميةبقلم المهندس “طارق بدراوى” ** هرم تشيتشن إيتزا بالمكسيك **

سلسلة كنوز عالمية
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
** هرم تشيتشن إيتزا بالمكسيك **
كانت مدينة تشيتشن إيتزا مدينة كبيرة قبل رحلة كريستوفر كولومبوس إلي امريكا والتي أنشأها شعب المايا حيث كانت نقطة محورية رئيسية في سهول شمال المايا في أخر العصر الكلاسيكي بالقارة الأميريكية مابين عام 600م وعام 900م وهي ذات موقع أثري هام في بلدة تينوم في ولاية يوكاتان المكسيكية وتعد واحدة من أكبر مدن المايا وكانت أحد المدن المرشحة لتكون واحدة من المدن الكبرى ويوجد بموقع هذه المدينة العديد من الطرز المعمارية المنتشرة والمعروفة في وسط المكسيك كما توجد بها أبنية طرازها يشبه طراز الأبنية الموجودة في منخفضات ولاية يوكاتان الشمالية وكان يعتقد أن هذه الأنماط المعمارية من وسط المكسيك مثلت هجرة الناس من هناك أو الغزو العسكري من تلك المنطقة ولكن معظم التفسيرات المعاصرة ترى أن وجودها كان نتيجة الإنتشار والتبادل الثقافي ولذلك يعتقد أن المدينة كانت ذات تنوع سكاني وهو عامل يمكن أن يكون قد ساهم في تنوع الأساليب المعمارية بها وكانت المنطقة الأثرية في هذه المدينة ملكا خاصا حتى يوم 29 من شهر مارس عام 2010م عندما تم شراؤها من قبل سلطات ولاية يوكاتان لتصبح أطلال هذه المنطقة ملكا للحكومة المكسيكية الإتحادية ويقوم المعهد المكسيكي الوطني للأنثروبولوجيا والتاريخ بمراقبة الموقع والإشراف عليه وصيانته والمحافظة عليه . وتعد هذه المنطقة الأثرية في وقتنا الحاضر من أهم المواقع الأثرية وأكثرها جذبا للزوار في المكسيك وقد زارها أكثر من مليوني سائح في عام 2016م وقد تم إكتشاف هذه المنطقة على يد الأثري الأمريكي إدوارد هربرت تومبسون عندما تسلق هرم المدينة والذى يعد أهم معالمها هو والمعبد الذى يعلوه في إحدى الليالي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وكان الهرم مغطى بالنباتات وتبين معالمه في الصباح التالي وبخصوص تسميتها بتشيتشن إيتزا فإن ذلك يعود إلي ما قبل الإكتشاف الأوروبي للأمريكتين ويعني هذا الإسم بلغة المايا بئر إيتزا حيث إيتزا هو الشعب الذى يظن أنه من بنى المدينة وأسس مبانيها الدينية في المئات الأولى للميلاد وهذا الشعب كان من النبلاء ثم تبعهم بعد ذلك شعب المايا حتى القرن الرابع عشر الميلادى حينما إستوطنوا هذه المدينة بعد تشييدها في القرن السادس الميلادى وشيدوا حضارة عظيمة بها وإبتكروا طرز معمارية تختلف عن باقي الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطي قبل إكتشافها علي أيدى الأسبان والبرتغاليين وتتميز في أنها الوحيدة التي طورت نظاما متكاملا للكتابة كما كان لها باع طويل وإنجازات عظيمة في مجال العمران والفن والفلك والحساب إذ أن المايا عرفوا الصفر ووضعوا له علامة خاصة منذ القرن الأول الميلادى مما مكنهم من إجراء عمليات حسابية مليونية وجعل تقويمهم السنوى من أدق التقاويم التي عرفها العالم . ويعتقد علماء الآثار أن مدينة تشيتشن إيتزا قد تعرضت في القرن العاشر الميلادى للغزو والإحتلال من جانب أحد ملوك التولتك وهي إحدى حضارات وسط أمريكا التي أسست دولة كبيرة كان مركزها مدينة تولا في زمن مبكر من الفترة ما بعد الكلاسيكية السابق الإشارة إليها وقد إنتهت حضارتهم بعد ذلك عندما غزاهم شعب تشيتشيميك وهم من البدو الرحل في حوالي عام 1200م تقريبا والذين منهم جاء شعب الأزتك لذلك فإن آثار هذه المدينة يمكن تمييزها إلي نوعين الأول يخص الفترة السابقة للغزو وتحمل طابع وطراز المايا الأثرى المعمارى أما النوع الثاني فيمكن ملاحظة التمازج الواضح في طرازها مابين طراز المايا وطراز التولتك وفي القرن الثالث عشر الميلادى تراجعت الحياة كثيرا في هذه المدينة وخبا نجمها وبدا جليا أنها قد هجرت بالتدريج من جانب سكانها وقد يكون السبب في ذلك هو إزدهار مدينة مايابان القريبة منها والتي إزدهرت آنذاك وأصبحت عاصمة المايا السياسية والإقتصادية لكن من جانب آخر إحتفظت مدينة تشيتشن إيتزا بمكانتها الدينية لقرون لاحقة حيث كان الكثير من حجاج المايا يقصدونها وغالبا ما كانوا يجلبون معهم أضحياتهم الحيوانية والبشرية ليلقوا بها في قاع البئر المقدسة التي سنتكلم عنها في السطور التالية . وكان من أهم المنشآت التي شيدها المايا هذا الهرم الذي وقف عليه تومبسون والذى بنى على يد المايا وقد كشفت الحفريات التي قام بها هذا الأثرى عن وجود طريق بعرض 6 متر وطول 300 متر تقريبا وهو مرصوف بالحجر الأحمر ويقود من طرف المدينة إلى حوض أو بئر طبيعي من الحجر الجيري ممتلئ إلى نصفه بالماء فعرف تومبسون أنه كان يستخدم لتقديم الأضاحي كما كان لهذا الحوض أيضا ذكر في مذكرات بعثة أسبانية تبشيرية حيث كان يسمي بالبئر المقدسة وكانت الفتيات العذارى تلقى وهن أحياء في هذا البئر وقت الجفاف كتضحية لإله المطر على إعتقاد أنهم سيعيشون فى قاع هذا البئر وأن ذلك سوف يجلب الماء والمطر و قد وجد علماء الأثار بمساعدة الغطاسين عظامهم فى البئر بالإضافة إلى المصوغات الذهبية وغيرها من الأشياء الثمينة التى كانوا يتزينون بها فى رحلتهم الأخيرة للموت فى قاع البئر كما تم إستخراج بقايا بشرية من قاع هذا البئر أيضا لأطفال ورجال وليس لنساء وفتيات فقط ومن آثار هذه المدينة أيضا القبة أو الكاراكول وهي قبة مبنية على مصطبتين حجرييتين وكان هذا مرصدا للمايا يقود إليها درج حلزوني يقود لثلاث فتحات تعنى حركات الشمس والقمر مما سهل عليهم وضع تقويمهم كما يقال إنهم قد عرفوا أيضا كسوف الشمس وخسوف القمر كما توجد بالمدينة آثار قبور كثيرة وبقايا قاعة بها 1000 عمود ونحو سبع ساحات للألعاب كان من ضمنها ساحة تعد هي الأكبر فى الأمريكتين حيث يبلغ طولها 166 متر وعرضها 68 متر ويحدها من الجانبين حائطان صخريان إرتفاعهما 12 مترا علق علي كل منهما حلقة صخرية يعتقد العلماء والباحثون أنهما المرميان اللذان كان ينبغي علي كل من الفريقين المتنافسين إدخال كرة مطاطية يبلغ وزنها 5 كيلو جرام إليهما وكانت المنافسات شرسة للغاية لأن الخاسرين كان يتم إعدامهم ويرى علي جدران هذه الساحة نحت يصور مشاهد تظهر فريقين متنافسين ونحت آخر لأحد لاعبي فريق خاسر راكع تم إعدامه بقطع رأسه مع إنطلاق النار والدم من رقبته . ومن أهم المباني الأثرية أيضا في هذه المدينة هو التزومبانتلي وتعني منصة الجماجم وهي مستطيلة الشكل طولها 60 متر وعرضها 12 متر وجدرانها مزينة بأشكال الجماجم ويعتقد أن هذا المكان كان يضع به شعب المايا رؤوس أعدائهم في الحروب وكانت علي مقربة من هرم المدينة ومعبدها وكانت تبدو هذه المنصة من بعيد وكأنها شجرة ضخمة عملاقة من الرؤوس البشرية وتشمل المدينة أيضا مجموعة من الكهوف التاريخية المقدسة عند المايا أحدهما يبعد عن المنطقة الأثرية بحوالي 4 كم ويحتوى علي العديد من الآثار والنقوش وقد تم تحويله إلي متحف في الوقت الحاضر وهناك آثار أخرى كثيرة في تشيتشن إيتزا مثل معبد الألف عمود ومعبد كوكب الزهرة ومعبد المحاربين بالإضافة إلي آبار المدينة التاريخية التي مازالت تنضح بالماء حتي اليوم ومعبد الرجل الملتحي أو المعبد الشمالي وهو عبارة عن مبنى صغير به منحوتات غائرة على جدرانه الداخلية تصور شخصية وهيئه الفنان الذى قام بهذه الأعمال حيث وضع تحت ذقنه شعر يشبه شعر الوجه كما يوجد في الطرف الجنوبي للمدينة معبد أكبر بكثير ولكنه في حالة خراب وقد سماه الأسبان أجليسيا وربما سمي بهذا الإسم لأنه كان يقع بجوار دير للراهبات وهذا المعبد هو أحد أقدم المباني في تشيتشن إيتزا ويضم منحوتات لسرطان البحر والقواقع والسلحفاة وهي تمثل بعض من آلهة المايا كما يوجد معبد آخر في المدينة يسمي معبد ووريورز وهو علي شكل هرم محاط بأعمدة منحوتة تصور المحاربين على طول الجدار الجنوبي للمعبد كما توجد سلسلة من الأعمدة المكشوفة تنقسم إلي 3 اقسام متميزة هي مجموعة الغرب والتي تمتد على خطوط جبهة معبد ووريورز ومجموعة الشمال التي تمتد على طول الجدار الجنوبي للمعبد وتحتوي هذه الأعمدة علي منحوتات للجنود من النحت الغائر وأخيرا مجموعة الشمال الشرقي . وبالإضافة إلي هذه الآثار يوجد أهم اثر في هذه المنطقة وهو الهرم الذى بناه شعب المايا ولكن آثار التولتك واضحة عليه حيث توجد عليه أنصاب لكيتزالكواتل أو الأفعى ذات الفم الكبير والريش تشير بذيلها للسماء وكان هذا الهرم مكرسا لعبادة الإله كيوكيولكان وهو إله قديم صوره المايا علي شكل أفعي عظيمة مجنحة أى أشبه مايكون بالتنين الصيني وقد أطلق الأسبان علي الهرم إسم القلعة وهو يتكون من 9 طبقات هي عدد طبقات العالم السفلي طبقا لمعتقدات المايا وقاعدة هذا الهرم علي شكل مربع طول ضلعه 55.3 مترا ويبلغ إرتفاعه 30 مترا من ضمنها 6 امتار هي إرتفاع المعبد الذى يعلوه ومن عجائب هذا الهرم سلالمه حيث يوجد في كل جانب من جوانبه الأربعة سلم يرقي إلي المعبد فوقه يتكون من عدد 91 درجة بإستثناء السلم الشمالي حيث يبلغ عدد درجاته 92 وبجمع أعداد الدرجات في السلالم الأربعة نجد أن المجموع يبلغ 365 وهو عدد أيام السنة حسب تقويم المايا والذى يعتبر من أدق التقاويم البشرية من حيث نسبة الخطأ وهناك عجيبة أخرى في هذا الهرم والتي تدل علي مدى دقة وإبداع الفن المعمارى القديم وتعتبر أحد عوامل الجذب السياحي للمنطقة وهذه العجيبة تحدث مرتين فقط في السنة في يومي الإعتدال الربيعي والإعتدال الخريفي ففي هذين اليومين تلقي الشمس بظلالها علي الجزء الشمالي من المعبد بإستثناء الجزء الأعلي من السلم الذى يبدو من خلال الظلال التي تلقيها عليه طبقات الهرم كأنه متصل بجسد واحد نوراني مع رأس الثعبان الذى يرمز إلي الإله كيوكيولكان عند قاعدة السلم ويخيل حينها لمن يراه بأن افعي عملاقة تهبط إلي الأرض من أعلي الهرم وقد تم إختيار هذا الهرم ضمن قائمة عجائب الدنيا السبع الجديدة في المسابقة السويسرية التي أجريت خلال عام 2007م . والمعبد الذى يوجد أعلي هرم تشيتشن إيتزا كان إلي جانب كونه معبدا لشعب المايا كان أيضا مرصدا للمقاتلين وكان المايا يعتقدون بأنه إذا قل سقوط المطر فذلك يكون سببه أن آلهتهم غاضبة عليهم ويجب أن يقدموا قربانا لها كما رأينا بإلقاء الفتيات العذارى في البئر المقدسة التي تكلمنا عنها كما كانت هناك طريقة أخرى لتقديم القرابين تتسم بالقسوة والبشاعة حيث كان يجتمع كبير من المقاتلين وملك القوم وكاهنهم وبعض الحرس وأبناء الملك في رأس الهرم ثم يأتوا بعبيد إستعبدوا عن طريق الغزو ويتم وضعهم على مكان مرتفع في رأس الهرم ويأتي الكاهن ويقرأ التراتيل والتعاويذ ومن ثم يهوي بسكينة على صدر أحد العبيد ويشقه ويكسر ضلوعه ويقطع الشرايين عن قلبه ثم يخرجها والضحية لا تزال تنبض بالحياة ومن ثم يهوي أحد الحراس بفأس على رأس الضحية فيقطعه ويهوي به من أعلى الهرم ثم يهوي بالجسم بعده حيث يستلم أحد الأشخاص الرأس بطريقة بهلوانية في أسفل الهرم ومن ثم يقوم الكاهن بوضع القلب على موقد ليشتعل القلب ويحترق وبهذا يكون قد قدم القربان إلى إله المطر كيوكيولكان وجدير بالذكر أنه يوجد داخل هذا المعبد منحوتات ورسومات لهذا الإله الذى كانوا يقدسونه وقد منعت السلطات المكسيكية تسلق هذا الهرم بواسطة زواره نظرا لسقوط إمرأة عجوز أثناء صعودها إليه عام 2006م مما أدى إلي موتها .

المهندس طارق بدراوي شهاب الدين

زر الذهاب إلى الأعلى