مقالات

كنوز عالمية بقلم المهندس “طارق بدراوى” * مدينة ماتشو بيتشو ببيرو ***

سلسلة كنوز عالمية
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
* مدينة ماتشو بيتشو ببيرو ***
مدينة ماتشو بيتشو ومعناها باللغة الإنكية قمة الجبل القديمة وقد بنيت هذه المدينة من قبل شعب الإنكا في القرن الخامس عشر الميلادى والإنكا إمبراطورية قديمة بنتها شعوب من الهنود الحمر في منطقة قارة أمريكا الجنوبية وكانت تعد أكبر الإمبراطوريات في هذه القارة في العصر قبل الكولومبي أى قبل وصول كريستوفر كولومبس إلي الأمريكتين وهي حضارة ضاربة في القدم وكانت تشمل بوليفيا وبيرو والإكوادور وجزء من شيلي وجزء من الأرجنتين وقد قاموا ببناء عاصمتهم كوزكو والتي تقع حاليا في جنوب شرق بيرو غربي قارة أمريكا الجنوبية بالقرب من وادي أوروبامبا على إرتفاع 11 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر في جبال الأنديز وكانت هذه العاصمة مدينة مترفة ومليئة بالمعابد والقصور وقد أطلق عليها إسم مدينة الشمس المقدسة التي كان يعبدها شعب الإنكا وقد وجد في عام 2006م أنها البقعة الأكثر إحتواءا على الأشعة فوق البنفسجية على سطح كوكب الأرض وقد بدأ يستوطنها المكتشفون والرحالة والمهاجرون الأسبان بداية من يوم 15 نوفمبر عام 1533م وبدأوا في تعميرها وفي تأسيس مدينة جديدة على أنقاض عاصمة الإنكا القديمة فإستبدلوا معابدها بكنائس وقصور يبدو فيها بوضوح تأثير حضارة الإنكا القديمة التي كانت موجودة في هذه المنطقة في تخطيطها العام وفي تصميمها وفي تصميم منشآتها وفي عام 1950م دمر زلزال كبير أجزاء مهمة من هذه المدينة حيث تأثرت بعض المباني مثل الدير الدومينيكانية وكنيسة سانتو دومينجو وقد يكون ذلك الزلزال هو ثاني أكبر الزلازل التي تعرضت لها المدينة بعد زلزال شديد كانت قد تعرضت له عام 1650م . وكلمة إنكا تعني الملك أو الإبن الأوحد للشمس ومن المظاهر الغريبة أن أول ملوك الإنكا قد تزوج بأخته الشقيقة للمحافظة على الدم الملكي وتسمى الملكة كويا ويعتبر الإثنان منحدرين من إله الشمس وفق عبادتهم ومعتقداتهم ويقال إن نسل الإمبراطورية كان به أربعمائة طفل من هذا الهجين كما أن للملك وحده حق منح زوجة إضافية للنبلاء من علية القوم وما زالت هذه العادة تجري إلى الآن بين الأغنياء الإقطاعيين في مجاهل غابات بيرو والإكوادور وبوليفيا وبعض دول أمريكا الجنوبية أو اللاتينية هذا وتقع مدينة ماتشو بيتشو في كوزكو في دولة بيرو قرب نهر أوروبامبا على بعد 120 كم شمال كوزكو بين جبلين من سلسلة جبال الأنديز وهي سلسلة جبلية واسعة ممتدة على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية يقارب طولها 7100 كيلومتر وعرضها 500 كيلومتر ومعدل إرتفاعها 4000 متر وتمتد هذه السلسلة في سبع دول هي الأرجنتين والإكوادور وبوليفيا وبيرو وشيلي وكولومبيا وفنزويلا ويقال إن السبب في تسمية جبال الأنديز بهذا الاسم يعود إلى نشاط أحد أنواع البراكين المطلقة لمادة الأنديزيت في تلك المنطقة والتي أدت إلى تكوين تلك الجبال الشاهقة الإرتفاع والتي تعد أعلي جبال العالم بعد جبال الهيمالايا المتواجدة في قارة آسيا . وتتواجد مدينة ماتشو بيتشو على إرتفاع 2340 متر فوق سطح البحر وعلى كل من جانبيها هاوية سحيقة تحيطان بها بإنحدار طوله 600 متر مغطى بغابات كثيفة بينما يجري أسفلها نهر أولو بانبا لترسم كل هذه العناصر مشهدا مهيبا لهذه المدينة الغامضة وقد قامت منظمة اليونيسكو بتصنيف هذه المدينة في قائمة التراث العالمي عام 1983م كما تم إختيارها في المسابقة التي أجريت عام 2007م كأحد عجائب الدنيا السبع الجديدة وقد تم إكتشاف أطلال مدينة ماتشو بيتشو القديمة المغطاة بغابات إستوائية كثيفة في يوم 24 يوليو عام 1911م علي يد المستكشف الأميريكي هيرام بينجهام والمثير في الأمر أنه تم إكتشاف هذه المدينة بالصدفة البحتة عندما كان يبحث عن آثار الإنكا التي دمرها الأسبان وكان مدخل هذه المدينة قد سد بزلزال قبل سنوات طويلة وبعد تسلقه لجدار جبلي محاط بصخور كثيرة وغير واضح من الوادي رأى الجدران وهي مغطاة بالأوراق والمنازل منسقة بعناية مما دل على أن مدينة كبيرة قامت في هذا المكان ليكتشف هذه المدينة المخبأة وسط الغابات وتناطح السحاب بتنظيمها وبنائها البديع ثم بدأت ماتشو بيتشو تظهر حضارتها الرائعة رويدا رويدا أمام العالم الحديث . وعلى الرغم من جمال وعبقرية المكان إلا أن هذا ليس التميز الوحيد لماتشو بيتشو بل العجيب أن هذه المدينة مبنية بأسلوب عصري لا يناسب حضارة قديمة لم تعرف الكتابة حيث تحتوى المدينة على شوارع صغيرة مرتبة وبنايات وقصور ومعابد وحدائق وقنوات ري وبرك إستحمام وتتميز هذه الحدائق والشوارع بأنها مبنية علي مستويات مختلفة ولذا فقد تم الربط بينها بإستخدام السلالم الحجرية ومن العجيب أن المدينة بأكملها مبنية من أحجار كبيرة الحجم ومتراصة فوق بعضها البعض بدون أي مواد أو أدوات تثبيت ولذلك فقد قيل عن ذلك إن هذه المباني الحجرية معجزة صعبة التصديق وقال بعض الناس إنه مستحيل أن يكون شعب الإنكا القديم قد بنى هذه المباني العجيبة بدون أدوات حديثة ومعارف معمارية وهندسية فخمنوا أن الكائنات الفضائية قد نزلت إلى هذا المكان قبل آلاف السنين وبنت هذه المدينة أو بناها إله الشمس وغير ذلك من الحكايات والأساطير الخيالية ولذلك وبفضل هذه العجبية المدهشة صنفت منظمة اليونيسكو هذه المدينة في قائمة التراث العالمي عام 1983م كما ذكرنا في السطور السابقة . وتلقب مدينة ماتشو بيتشو بالمدينة المفقودة لشعب الإنكا القديم وصنفت المدينة ضمن قائمة المناطق المقدسة القديمة العشرة في العالم بسبب بيئتها المتميزة بجو مقدس وسحري وإيماني هذا ولا يوجد أى سجل مكتوب لتاريخ الإنكا لأن الحضارة الإنكية ما كانت لها كتابة وإعتمد تسجيل تاريخها على النقل الشفوي ولا يعرف العلماء أو الباحثون تاريخ بناء هذه المدينة أو سبب بنائها لكن العلماء يظنون أنها لم تكن للمعيشة وإنما كانت لتقديم القرابين حيث وجد العلماء جثث أعداد كبيرة من النساء في هذه المدينة وهو الأمر الذي يتوافق مع ما نعرفه من عبادة شعب الإنكا للشمس وظنهم أن النساء هن بنات الشمس المقدسة وترجح الأبحاث الأخيرة أن مدينة ماتشو بيتشو قد بنيت بأمر من باشاكوتيك إمبراطور الإنكا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادى عندما وصلت الإمبراطورية في عهده إلى ذروة مجدها وهي تنقسم إلى منطقتين أولهما منطقة زراعية رائعة مقسمة على هيئة مدرجات كبيرة والثانية المنطقة الحضرية التي عاش فيها شعب الإنكا ومارسوا أنشطتهم الدينية والمدنية ويعتقد أن شعب الإنكا القديم في هذه المدينة لم يرغب في إحتلال الأسبان للمدينة وإختطاف حضارتهم الباهرة فبقوا صامتين ولم يتكلموا عنها أبدا خاصة أنها بنيت على قمة جبل محاط بغابات كثيفة فصعب علي الأسبان إكتشافها . ويظن البعض أن هذه المدينة قد بنيت في أواخر القرن الخامس عشر الميلادى عندما وصل إمبراطور الإنكا إلى ذروة مجده وكانت هذه المدينة مكانا لتقديم القرابين والأنشطة الدينية الأخرى كما ذكرنا ومن أهم آثار مدينة ماتشو بيتشو معبد الشمس ومعبد القمر أما معبد الشمس فهو المبنى الدائري الوحيد في المدينة وللدخول إليه يتحتم عبور خندق كبير موجود ضمن أنقاض المدينة وعند شروق الشمس تدخل أشعتها من خلال نوافذ هذا المعبد وتضيء البرج كله مما يدل على أن موقع النوافذ قد تم إختياره بدقة من قبل علماء الإنكا القدماء وأما معبد القمر فيقع أسفل الجبل وللوصول إليه من قمة الجبل يجب السير علي الأقدام لمدة حوالي 45 دقيقة وهو يتكون من كهف كبير فيه خمسة محاريب ضخمة منحوتة من الجرانيت الأبيض وفي مركز الكهف صخرة منحوتة مثل العرش ويعتقد علماء الآثار أن إسم المعبد مستوحى من الطريقة التي يشع بها ضوء القمر فى الكهف ليلا وعلى جانبى الساحة الصغيرة أمام المعبد يوجد مزيد من المباني الحجرية وبعض التماثيل والمنحوتات التى كان شعب الإنكا يقدسها وإلي جانب هذين المعبدين يمكن لهواة تسلق الجبال تسلق جبل هوبانا بيتشو وهو الجبل الكبير الذى يبدو خلف مدينة ماتشو بيتشو ويوجد طريق ضيق متعرج يؤدي إلى أعلاه حيث يمكن العثور على بعض حطام حضارة الإنكا ورؤية مناظر خلابة للجبال المحيطة ونهر فيلكانوتا . وبعد إكتشاف مدينة ماتشو بيتشو وفي اقل من خمسين سنة منذ إكتشاف أطلالها وفتحها بدأ يزور هذه الحديقة المعلقة كما أطلق عليها نظرا لكونها مبنية علي قمة جبل شديد الإنحدار أكثر من نصف مليون سائح كل سنة حيث ترد ضمن أولى المواقع السياحية في القائمة النهائية لأفضل 500 مكان للسفر حسب دليل السياحة والسفر الأشهر في العالم لونلي بلانيت وذلك بالتأكيد لكونها وجهة طبيعية وتاريخية رائعة جدا ولذلك فهي تحتل المرتبة الثالثة ضمن قائمة هذا الدليل وضمن أفضل الأماكن التي ينصح بها للزيارة في كل عام وضمن كل التقارير والإستطلاعات العالمية ويمكن الوصول إلي هذه المدينة سيرا على الأقدام عبر طريق الإنكا تريل وهو الأكثر متعة أو ركوب الحافلة أما الذهاب عن طريق الإنكا تريل فمن الضروري الحجز قبل شهرين من موعد الرحلة ووفقا لقرارات حكومة بيرو لا يمكن للزوار السير على الإنكا تريل إلا مع وجود مرشد مدرب ومرخص له بالعمل في هذه المنطقة كما لا يسمح لأكثر من 200 شخص بالزيارة فى اليوم الواحد وتبدا هذه الرحلة من مدينة كوزكو وتحديدا عند قرية تسمي تشيلكا ثم السير علي الأقدام إلى ماتشو بيتشو لمسافة تقترب من 40 كيلومتر ومما لا شك فيه أن اللياقة البدنية هى وحدها التي تساعد على الإستمتاع بهذه الرحلة لأنه بخلاف السير علي الأقدام يجب التغلب علي مشكلة نقص الأوكسجين في الأماكن المرتفعة التي سيتم زيارتها وفي كل عام يزور ماتشو بيتشو الآلاف من السائحين عبر هذا الطريق سيرا على الاقدام فوق بقايا حضارة الإنكا وإذا أصابهم التعب يخيمون على طول الطريق وسط المناظر الخلابة وأطلال الحضارة القديمة . وأما رحلة الحافلات فإنها تسير من مدينة كوزكو إلى قرية كالينتيسن آجواس وتستغرق هذه الرحلة نحو 20 دقيقة وهي رحلة مذهلة ومخيفة بعض الشيء لأنها ببساطة تكون على إرتفاع كبير في الوقت الذى يوجد فيه وادى فيلكانوتا في الأسفل كما أن الطريق ضيق جدا وعندما يشهد مرور حافلتين متضادتين فى الإتجاه في وقت واحد يصبح الوضع عصيب جدا وعموما ففي أثناء رحلة الذهاب إلى ماتشو بيتشو بالحافلة تظهر الغابات الخضراء والزهور الوردية والبرتقالية على المنحدرات المدرجة في مشهد طبيعي خلاب يذهب بالعقول ويسحر الألباب لايمكن نسيانه طول العمر ومن كالينتيسن آجواس تتحرك الحافلات عشر مرات يوميا لكن يتطلب الأمر حجز تذكرة الدخول إلى ماتشو بيتشو مسبقا سواء عبر شبكة الإنترنت والسداد عن طريق بطاقات الإئتمان أو من خلال مكتب التذاكر الرسمية في مدينة كوزكو وقد صرحت حكومة بيرو حاليا بزيارة ماتشو بيتشو لعدد 2500 شخص في اليوم الواحد ويذكر أن زيارة ماتشو بيتشو تتوقف خلال شهر فبراير من كل عام حتى يتم تنظيف الطريق نظرا لأنه موسم الأمطار في المنطقة وتصبح الطرق خطرة جدا سواء للقيادة أو السير حيث يسهل إنزلاق الأشخاص السائرين علي أقدامهم أو الحافلات في مثل هذه الظروف وجدير بالذكر أن الموسم السياحي في هذه المنطقة يبلغ ذروته خلال الفترة من بداية شهر يونيو وحتي نهاية شهر سبتمبر من كل عام .

المهندس طارق بدراوي شهاب الدين

زر الذهاب إلى الأعلى