مقالات

كنوز عالمية علي مر العصوريكتبها: المهندس” طارق بدراوى” ** جامع السلطان أحمد بإسطنبول **

سلسلة كنوز عالمية
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
** جامع السلطان أحمد بإسطنبول **
تشتهر تركيا التي تقع ما بين قارتي آسيا وأوروبا بالكثير من المواقع السياحية الجميلة حيث تتعدد المدن التركية التي تزخر بجمال الطبيعة وما تركته الحقب التاريخية التي حكمتها حيث إتخذها العثمانيون كدولة ومركز لإنطلاق الحكم العثماني وكانت العاصمة هي مدينة إسطنبول والتي تقع على مضيق البوسفور الذي يفصل ما بين البحر الأسود شمالا والبحر الأبيض المتوسط جنوبا وقد إهتم العثمانيون بالبناء المعماري خصوصا بناء المساجد ومن أكثر المساجد شهرة في إسطنبول مسجد السلطان أحمد ويعرف أيضا بإسم المسجد الأزرق وقد يتساءل الكثيرون عن سبب تسميته بهذا الإسم وعن أهميته ومكانته الدينية وهذا ماسوف نبينه في السطور القادمة بإذن الله هذا ويعد هذا المسجد أحد أشهر وأهم المساجد في مدينة إسطنبول التركية ويقع في ميدان السلطان أحمد ويقابله من ناحية الشمال جامع آيا صوفيا الشهير الذى كان كاتدرائية بيزنطية ثم أصبحت مسجدا بعد فتح السلطلن محمد الفاتح القسطنطينية عاصمة البيزنطيين وقد تغير إسم المدينة بعد ذلك أولا إلي الآستانة ثم تغير مرة أخرى إلي إسطنبول وبعد قيام الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م أصبحت متحفا عام 1934م وإلي الغرب منه يقع ميدان السباق البيزنطي القديم الذى كان ميدانا لسباق الخيل في مدينة القسطنطينية القديمة في عهد الإمبراطورية الرومانية وكان في ذلك الحين يمثل مركزا إجتماعيا للمدينة وملتقي لسكانها ومكانا لمزاولة الرياضات المختلفة . والسلطان أحمد الأول الذى أمر ببناء هذا المسجد هو إبن الخليفة محمد بن مراد أحد خلفاء الدولة العثمانية وقد ولد يوم 18 أبريل عام 1590 م ونشأ في حجر أبيه محمد الثالث الذي لم يكن قد تولى خلافة الدولة حينما ولد وبعد نحو خمس سنوات تولَّى محمد الثالث الحكم خلفًا لأبيه مراد الثالث ودامت سلطنته حوالي تسع سنوات وقد إعتني بتربية ولده أحمد وإعداده ليكون أهلا لتحمل تبعات الخلافة الجسيمة فنشأ متدينا وكان علي درجة عالية من الثقافة وقد تعلم الشعر وأتقنه وقام بنظم بعض القصائد وله ديوان مطبوع كما كان يجيد إستخدام أسلحة عصره وقد عينه أبوه في ولاية العهد وهو في سن الثانية عشرة من عمره ولكنه لم يمكث وليا للعهد سوى سنة ونصف فقط حيث توفي أبوه عام 1603م وليتولي هو الخلافة العثمانية وليكون السلطان العثماني الرابع عشر وهو لم يكمل 14 عاما بعد ونظرا لسنه الصغيرة لم يكن قد مارس إدارة الدولة أو خرج لجبهات القتال ولكنه حاول أن يعمل ما في وسعه من جهد في حماية مصالح الدولة التي كانت تتعرض لأزمات عنيفة وحروب خارجية عديدة وقت توليه الخلافة وقد إستطاع السلطان أحمد في الفترة الأخيرة من حكمه أن يكتسب خبرات واسعة وأصبح سلطانًا ناضجا عاقلا وأظهر قدرات في الحكم أشبه بقدرات سلاطين الدولة العثمانية العظماء لكن القدر لم يمهله فأصيب بالحمى في بطنه ودام مرضه عدة أسابيع ثم لم يلبث أن تُوفّي في يوم 23 من شهر ذي القعدة عام 1026 هجرية الموافق يوم 22 من شهر نوفمبر عام 1617م ولم يكن قد أكمل الثامنة والعشرين من عمره بعد وقد تولي ثلاثة من أبنائه الخلافة العثمانية وهم السلطان عثمان الثاني والسلطان مراد الرابع والسلطان إبراهيم الأول وكان من أهم أعماله إنقاذه لمن تبقي من مسلمي الأندلس حيث قام بإرسال الحاج إبراهيم أغا إلى لندن سفيرا فوق العادة للدولة العثمانية في عام 1019 هجرية الموافق عام 1610م وكان الغرض الحقيقي من ذهابه إلى أوروبا الغربية جمع المسلمين الأندلسيين الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى شمال أفريقيا بعد أن تعرضوا للذبح والقتل في الأندلس فلجأوا إلى غرب أوروبا حيث كان قد تم قُتل نحو 400 ألف مسلم أندلسي وفر من تبقّى إلى الجزائر وتنصر بعضهم فوهبت له الحياة النصرانية وكان أكثر من لجأ إلأي غرب أوروبا في عداد العبيد وقد نجح الحاج إبراهيم أغا في مهمته وتمكن من جمع العائلات التي إستطاع العثور عليها وقام بنقلها إلى الأراضي العثمانية . وقد بني هذا المسجد السلطان العثماني أحمد الأول حيث أمر ببناء مسجد يضاهي ويفوق مسجد آيا صوفيا المقابل له فكانت الأرض التي بني عليها المسجد قريبة من قصر الخلافة طوب قابي فإشتراها السلطان بمبلغ ضخم من صاحبها بسبب موقعها الرائع على البحر وقد تم بناء المسجد بين عام 1018 هجرية الموافق عام 1609م وعام 1026 هجرية الموافق عام 1616م حسب إحدى النقوشات على إحدى أبوابه أى أن البناء قد إستمر لمدة ثماني سنوات وتم إفتتاحه قبل وفاة السلطان بعام واحد فقط حيث توفي عام 1617م كما ذكرنا في السطور السابقة وكان الهدف من بناء المسجد كما أمر السلطان أحمد أن يكون ضخما في خدمته الدينية والعلمية والإجتماعية ويجمع ما بين فخامة بنائه من الخارج ومن الداخل ليفوق جامع آيا صوفيا المقابل له وبهذا أصبح مسجد السطان أحمد أكبر المساجد في إسطنبول وأهمها وهو يشتهر بعمارته المميزة حيث يعد من أهم وأضخم المساجد في العالم الإسلامي وقد بني هذا المسجد علي يد المهندس المعمارى محمد آغا أشهر المعماريين الأتراك بعد سنان باشا وداود أغا وله سور مرتفع يحيط به من ثلاث جهات وفي السور خمسة أبواب ثلاثة منها تؤدي إلى صحن المسجد وإثنان إلى قاعة الصلاة التي تأخذ شكل مستطيل أبعاده 72 متر في 64 متر وهي تتسع لحوالي 10 آلاف مصلي . ويتكون الصحن من فناء كبير ويتوسط الصحن ميضاة سداسية محمولة على ستة أعمدة والملاحظ أن أكبر الأبواب التي تؤدي إلى الصحن يظهر فيه التأثر بالفن الفارسي وكانت مزينة بمقرنصات وتعلوها قبة صغيرة وكانت تتدلي منه سلسلة حديدية ضخمة ولم يكن مسموحا بالدخول منها لأى شخص ممتطيا جواده إلا السلطان والذى كان يضطر إلي خفض رأسه حتي لا تصطدم بهذه السلسلة في إشارة إلي ضآلة السلطان مقارنة بعظمة الله الواحد الأحد وقد قام المهندس المعمارى العثماني محمد أغا بتوليف أفكار معلمه سنان باشا والذى كان يعد أشهر معماري عثماني وقد عاش في القرن العاشر الهجري في أوج العصر الذهبي للعمارة العثمانية وكان رئيس المعماريين وأشهرهم خلال حكم السلاطين الأربعة سليم الأول وسليمان الأول وسليم الثاني ومراد الثالث من أجل تصميم مبني يتميز بحجمه المهول مع العظمة والروعة كما أمر السلطان أحمد . ومن الخارج نلمح أن للمسجد خمس قباب كبيرة رئيسية وست مآذن وثمان قباب صغيرة كما تتضمن عمارة المسجد بعض العناصر المعمارية المسيحية البيزنطية المأخوذة من جامع آيا صوفيا المقابل له مع العمارة الإسلامية التقليدية وهو يعتبر آخر المساجد العظيمة في فترة العمارة العثمانية التقليدية الكلاسيكية وجاء التصميم ليعكس 200 من الخبرة العثمانية في بناء المساجد ومن الداخل نجد أن المسجد قد جائ على شكل مستطيل طولي ضلعيه 64 متر و72 متر وتتوسطه قبة كبيرة يحفها أربعة أنصاف قباب ويصل طول قطرها إلى ثلاثة وعشرين مترا ونصف المتر ويبلغ إرتفاعها ثلاثة وثلاثين مترا كما أن كل ركن من أركان المسجد مغطى بقباب صغيرة بها عدد 260 نافذة منفذة للضوء تبلغ وفي داخل المسجد يوجد عشرون ألف عامود مصنوع من السيراميك ومن الداخل تزين الآيات قرآنية جدرانه وبالرغم من ضخامة المسجد فجميع المصلين يتمكنون من رؤية الإمام وهذا هو سر وروعة تصميم هذا المسجد والذى يحيط به فناء خارجي وفناء داخلي مطل على القباب وعلى نافورة الوضوء والأروقة المحيطة بها وقد سمي المسجد الأزرق بهذا الإسم نسبة إلى الخزف الأزرق المستخدم في بنائه والذي أحضر من مدينة إيزيك التركية وكذلك نجد أن أغلب النقوش التي زينت قبابه غلب عليها اللون الأزرق كما يضم المسجد 20 ألف بلاطة زرقاء من تصميمات القرن السادس عشر الميلادى على شكل زهور وأشجار مميزة كما أنه مغطى بالرخام الازرق أيضا وبالإضافة إلي ذلك يحتوى المسجد الأزرق على العديد من اللوحات والبلاط والزجاج الملون مما يضفي على تصميمه المزيد من السحر والجمال وكذلك يحتوي المسجد على جدران مزينة بالأروقة المحيطة بأطراف المسجد الثلاثة وتغطّى أرضية المسجد بالسجاد كما هو الحال في جميع المساجد كما يشمل المسجد أيضا منبر ذهبي مزخرف فخم مصنوع من الرخام ويعلوه شكل مخروطي ومحراب مذهب مصنوع من رخام منحوت بشكل رفيع ومزين من أعلي بمقرنصات غاية في الجمال ولوحتين عليهما آيات من القرآن الكريم كما تتم إنارة المسجد عن طريق عدد من الثريات المطلية بالذهب والمرصعة بالأحجار الكريمة وكرات الكريستال وفي الزمن الماضي كان المسجد يضم مستشفى لعلاج الفقراء وخان ومدرسة وسوق ومطعم للفقراء وسبيل للعطشي وضريح للسلطان أحمد وزوجته وأبناؤه الثلاثة ولكن كل هذا تعرض للتدمير في القرن التاسع عشر الميلادى كما وضعت صورة المسجد على العملة التركية من فئة 500 ليرة في الفترة بين عام 1953م وعام 1967م .
ويعد هذا المسجد أحد ثلاثة مساجد حصرية في تركيا لها ست مآذن والمسجدان الآخران هما جامع صابنجي المركزي في مدينة أضنة والذي بني عام 1998م وجامع حضرة المقداد في منطقة يني شهير مرسين لإسم الصحابي الجليل المقداد بن عمرو أحد السابقين الأولين إلى الإسلام والمدفون في البقيع بالمدينة النورة ويعلو المسجد ست مآذن لاقت صعوبات في تشييدها إذ كان المسجد الحرام في مكة المكرمة يحتوي على ست مآذن ولذلك لاقي السلطان أحمد نقدا كبيرا على فكرة المآذن الست علي إعتبار أن مسجده بهذا الشكل سوف يكون قرينا ومشابها بالمسجد الحرام في مكة المكرمة ولكنه تغلب على هذه المشكلة بأن أمر ببناء مئذنة سابعة في المسجد الحرام ليكون مسجده هو المسجد الوحيد في إسطنبول وتركيا حتي وقت بنائه الذي يحوي ست مآذن وينفرد المسجد الحرام بسبعة مآذن وحده ويقال إن السلطان أحمد قبل توجهه للحج كان قد أمر رئيس وزرائه ببناء مآذن ذهبية للمسجد وكلمة ذهب تعني ألتين باللغة التركية وسمعها رئيس الوزراء خطأً بألتي وتعني ستة باللغة التركية بدلا من ألتين أي ذهبية فبنى ست مآذن بدلا من أن يبني أربعة مآذن ذهبية وجدير بالذكر أن المآذن الستة قد بنيت علي الطراز العثماني التركي حيث تأخذ الشكل الأسطواني الرفيع والذى ينتهي برأس مخروطية وهو الطراز الذى يطلق عليه طراز القلم الرصاص كما لايفوتنا أن نذكر أن مسجد محمد علي باشا الذى بدأ بناؤه عام 1246 هجرية الموافق عام 1830م في عهده داخل أسوار القلعة بالقاهرة وإنتهي هيكل البناء عام 1265 هجرية الموافق عام 1848م قبل وفاته بحوالي سنة وفي عهد عباس باشا الأول حفيده تمت أعمال الرخام والزخارف والنقوش به قد تم بناؤه علي نفس التصميم الذى تم تشييد المسجد الأزرق علي أساسه ويتشابه معه في المخطط العام وفي القبة الرئيسية المرتكزة علي عدد 4 أنصاف قباب وفي شكل مئذنتيه الرفيعتين الدائريتين اللتين تنتهيان بالرأس المخروطية علي شكل القلم الرصاص .

المهندس طارق بدراوي شهاب الدين

زر الذهاب إلى الأعلى