أدب و فن

قصة قصيرة بعنوان …….حدائق النيران … بقلم هدي الشريف

و
بعد ان ناولت السائق ما طلبه من اجر ترجلت من السيارة تحاول تهذيب فستانها الانيق . ياله من رائع
كم تتمني ان تمتلك فستانا مثله يظهر جمالها .ابتسمت في امتنان حين تذكرت زميلة الدراسة وهي تربت علي كتفيها بحنان او ربما بشفقه . حين طلبت منها علي استحياء استعارة فستان لحضور زفاف زميلتها الراقية بالعمل .

تعبر الطريق متجهه الي ذلك الفندق الفخم التي طالما مرت عليه وهي متأبطه قهرها و ممسكه بيدها الاخري في العامود الطولي بسقف الاتوبيس . لتتجول بخيالها داخل هذا الفندق . متجاوزة مناورات الرجال الذين يضيقون الخناق عليها لتصنع لنفسها صندوقا واقيا من تحرش البعض و كمامه تحميها من رائحه العرق المقزز . ثم تفيق قبل محطتها الاخيرة مستعدة للسباحه عبر اجساد البشر للوصول الي شط النجاة حين يتوقف الاتوبيس معلنا عن محطتها لتتنفس الصعداء .. كانت رحلتها اليومية الي العمل ذهابا و ايابا سلواها الوحيدة المرور علي ذلك الفندق الذي تجولت به ولمست كل اركانه في خيالها .

تتحسس بطاقة دعوتها .. تذكرة دخولها لذلك الحلم . عبرت الشارع تجاوزت درجات السلم ..
اخرجت الدعوة . شعرت وكأن اضواء الفندق تحولت الي فرقة موسيقيه تستقبلها بدفء تعزف لها وحدها لحن شوق لقاء طال انتظاره .اجتاحتها رعشة فرح ممزوجه بحزن دفين . وباعماقها شعرت انها السندريلا . تمنت ان تراقص الامير الباحث عنها بنفس هذا الفندق الذي طالما شهدت جدرانه و اركانه التي لم تراها رقصاتها مع اميرها الغائب ..

..اتفضلي يا هانم …..

فاقت علي صوت عامل الفندق وهو يعطيها بطاقة الدعوة ايذانا لها ببدء لقاء انتظرته طويلا .
لتري تجسيد واقعي لخيالها يتحقق . عبرت البهو و هي لا تكاد تصدق ما تراه ..
يااااه كم احبت و تمنت مشاهدة هذا لفندق طالما سهرت به ليالي طويلة عبر خيالها والذي ساعدها علي تجاوز واقعها المرير .نظرت مباشرة الي مقعد العروس ( الكوشة المسحورة ) وكأنها ببلاد الحواديت

ندهتها طاوله تتوسط القاعة . كأنها تدعوها للجلوس عليها .
جلست وحيدة علي الطاولة التي تحمل باقة زهور وكانها تهديها لها مقابل جلوسها .
ودت لو انها تختبئ بين زهورها من شده خجلها .شعرت بوردة في الباقة تنظر اليها و كانها تريد ان تعانق بالونها خديها الموردتين . ابتسمت . مدت يدها واحتضنتها . تشممتها بشوق . اغمضت عينيها لتبث لها امانيها . وتخبرها كم تمنت ان يرافقها اميرها ليهديها وردة مثلها . يرسم بها تفاصيل لوحة
ربيع عمرها و ينقش باوراقها جغرافيا جسدها المتشوق الي حياة جديدة .

علي اصوات الزغاريد و ايقاع الابتسامات واوراق الياسمين المتناثرة تدخل زميلتها العروس متأبطه ذراع عريسها .

تشرد ………..

.تري نفسها بثوب زفافها يحملها اميرها عابرا بها وسط تلك الرائحه الياسمينية الفواحة .

تعلو الزغاريد

تخرجها من حلمها الرقيق .. تتذكر زفاف شقيقتها في تلك الحارة الضيقة التي تفوح منها رائحه المجاري و عبث الملح المتناثر يقاتل عيون المدعوين .. تلك الليلة هبطت سيارة الشرطة لتقبض علي بعض من شباب الحي وهم في غياب عن الوعي ورائحة الحشيش تفوح لتصنع سحابة في السماء .. تصرخ فرحا لانها نالت حريتها من افواههم .. تبتسم حين تتذكر ذلك الوغد الذي يتحرش بها ليل نهار و هو في ايدي المخبرين .. تمنت لو انها تستطيع محو هذه المشاهد من مخيلتها يالها من حياة غير الحياة.

انتبهت

وجدت نفسها محاصرة بين زملاء العمل جلسوا معها بنفس الطاولة .بالكرسي المقابل جلس شاب انيق .. نعم . هو ذلك الشاب المبتسم انها تعرفه جيدا .. زميل الجامعة يااااااه …
لم تكن تحلم او تتخيل هذه المرة .نعم هو . ينظر اليها .كان حبيبها الاول ايام الجامعة .
الذي اختفي وعذره انه لن يستطيع ان يرتبط بها .. كم كانت تشهد عليهم حدائق الجامعة .

. كانت نيران الحدائق المتقدة التي شهدت علي حبهم خجلي ومنكسرة حين صرح لها انه لن يستطيع الزواج منها و عليهم ان يهيلوا التراب علي تلك النيران للابد .وكم اشتعلت حدائق النيران عشقا وكم نزفت سويا حلمهم الوليد .

ارخت جسدها الملتاع علي الكرسي ودون ان تشعر وجدت قدميها تعبر اسفل المنضدة متجه اليه في رحلة تود ان تؤكد لنفسها انها متيقظة و ان ما تراه هو عين الحقيقة وانها لا تحلم . لامست قدمه . خفق قلبها زادت نبضاته. تعالت دقاته . سرت بجسدها رعشة حين وجدته يقطع بقدمه المسافة ليعانق قدميها سابحا في فضاء الذكريات انتفضا سويا . اتسعت عيناه . تحولت رموشه لسهام تخترقها . تحتضنها . كما تحتضن اقدامهم المتشوقة لأيام خوالي شهدت عليها كل حدائق المدينة ..

تلاقيا بعد غياب وعذاب . نفوس متعبة و ارواح مرهقة قادمة من غياهب الغياب

ابتسم ابتسامتة الساحرة ناداها بعينيه ان تقترب اكثر . كم كان بارعا في ارسال كل ما يريده اليها من خلال عينيه وكم كانت هي متفردة في استقبال اشاراته .

العيون تتعانق .الاقدام تتعانق . الانفاس تتمني العناق . تلهث فواحه تواقة للاستسلام .

حاولا دون كلام ان يرفعا التراب الذي اهالوه يوما حين دفنا حلمهم الوليد و رحلا ..
يطمئنها بعينيه انه عاد .. و تطمئنه انها مازالت بالانتظار .. لم يكن بيدها غير ان تنتظر الامير الذي طال غيبته و اعتذر عن الحضور . ربما خوفا من ان يتقيئ وهو يعبر الي بيتهم من خلال تلك الحارة المتهالكة المنبعثه منها رائحه المجاري و التي دائما فاغرة فاها لالتهام اي غريب لا يعرف كيف يسير فوق الطوب المتناثر في الشارع خشيه ان يقع و يغوص في تلك العفونه .

يقبض بقدميه علي قدميها بقوة .. تمنت ان يحتضنها خارج هذه القاعه التي تفوح منها رائحة العطور
الي حديقتهم التي شهدت تلاقي الشفاه البكر و احتضان الانفس حين قبل روحها وذابت و انصهرت فيه بكل ما تحمله من براءة .

الوقت يمر ..القاعه تهدأ .. عدد المدعون يقل .

تمنت ان تنتهي مراسم الزفاف سريعا حتي تحتضن يداه و يخرجا معا معلنين لقائهم الابدي , لن يتركها
ثانية هكذا حدثتها عينيه . وهكذا استقبلت خديث عينيه .ودت ان تصرخ ف القاعه بصوت عالي ..
انه حبيبي لقد عااا د

رن هاتفه …….

اعتذر لها بعينيه شعرت انه يطلب منها السماح بالرد… ابتسمت له معلنة موافقتها قام من مكانه مسرعا تحدث بعيدا ولم يرفع نظره من عليها و هي ايضا تحتويه بعينيها . تراقبه عن كثب , لا تريد ان يغيب عن عينيها مرة اخري , عبر متجاوزا القاعه الي الباب . قامت خلفه . لامست يداه . تجمدت اطرافها لم يعد هناك سوي ان تلقي بنفسها في احضانه اقتربت منه اكثر . ضغط علي راحه يديها ..طبطب علي يديها .
تركها حين شاهد سيارة فارهة تقف امامه مباشرة تقودها سيده شارفت علي العقد الستون من عمرها .
تسمع صوته لاول مرة منذ سنين ………

زوجتي الحبيبة ..خرجت فورا بعد اتصالك بي ..
ها هتسهرينا فين النهاردة ؟؟؟ ركب بجوار زوجته العجوز التي انطلقت بسيارتها مسرعه .

مشدوهه ………….لا تدري ماذا حدث ؟؟

توقف امامها الاتوبيس برحلته الاخيرة ليعود بها الي حيث تنتمي .. تناديها المقاعد الفارغة لاحتساء دموعها قبل ان تغرق بها حارتها العتيقة .تاركة خلفها ..الفندق.. والامير.. وباقة الورد ..و حدائق النيران

تمت

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص أو أكثر‏‏

زر الذهاب إلى الأعلى