تحقيقات

○○ تخلف العرب عن أرقي الصناعات ○○

بقلم / عاطف عبد الوهاب
◇◇ صناعة السيارات توفر حوالي 4.9 مليون وظيفة، وأن قيمة براءات الاختراع والأبحاث الخاصة بصناعة السيارات (وتشمل أبحاث السلامة وصناعة الفورميلا وسباقات السيارات) تقدر بأكثر من 120 مليار دولار، وحجم الإنفاق في تلك الأبحاث يتعدى 9 مليارات دولار سنويًّا.
◇وتقف المنطقة الأوروبية في الصدارة من حيث التصنيع وتكنولوجيا الأبحاث بنسبة 17.38 مليون وحدة، تليها الصين بنسبة 15.52 مليون وحدة، ثم اليابان 10.82 مليون وحدة، ثم الولايات المتحدة 6.96 مليون وحدة، ثم كوريا الجنوبية 4.17 مليون وحدة، ثم الهند 3.29 مليون وحدة، وأخيرًا أمريكا الجنوبية 3.2 مليون وحدة.
◇واللافت للنظر أن هناك دول كانت تُعد ضمن الاقتصاديات المتعثرة؛ لكنها نجحت من خلال صناعة السيارات في أن تحسن وضعها الاقتصادي، بل وأن تصبح منافسة لدول لها خبرة طويلة في مجال السيارات. فالمتابع للتسلسل زمني ما بين عامي 1945 و2013 سيجد أن دولا مثل اليابان وألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية بخسائر اقتصادية فادحة أثرت على عمليات الإنتاج ومعدل النمو.
لكن كلتا الدولتين خرجتا من تلك الحالة بعد إشباع السوق المحلية من الطلب المستمر على وسائل النقل (إضافة إلى الدعم المالي من حكومات كلتا الدولتين) والذي ساهم في جذب الاستثمارات المحلية والعالمية للقطاع الخاص، الأمر الذي جعل اليابان تبدأ في التصدير الفعلي لسياراتها سنة 1962 إلى الولايات المتحدة، وأوروبا، تلتها ألمانيا في نهاية الستينيات، وهو ما جعل دولا أخرى تتبع نفس النهج مثل الصين والهند؛ حيث زاد معدل النمو في الصين وحدها إلى 9.3 % ما بين عامي 2010 و2012 والهند إلى 6.3% في نفس الفترة الزمنية بحسب إحصائيات البنك الدولي؛ حيث إن الاستثمارات التي تضخ في كلا البلدين في تصنيع السيارات تقدر بحوالي 7.2 مليارات دولار، وتوفر أكثر من 100 ألف وظيفة في كلا البلدين، بزيادة سنوية تقدر بحوالي 2.5% فالأوسط حسب تقرير KPMGعن صناعة السيارات السنوي تعتبر من المناطق المحتملة للاستثمار في مجال التجميع وليس التصنيع، كونها من أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم؛ حيث تشكل بين 15% إلى 20% من إجمالي الاستهلاك العالمي للسيارات. ورغم وجود مشاريع تجميع ضخمة لشركات عالمية في مصر وتونس والمغرب فإن مردودها الاقتصادي لا يقارن بدول أخرى في المنطقة مثل إيران وتركيا، حيث حرصت تلك الدول على شراء خطوط الإنتاج العالمية، وإعادة تصنيع السيارة بجميع مكوناتها محليًّا، بعكس الاعتماد على استيراد القطع الأساسية من المصنع لتجميعها محليًّا، كما حدث مع النموذج الصيني في بداية التسعينيات.
◇ورغم وجود خطوط تجميع لسيارات أخرى في كل من تلك الدول فإنها حرصت على وجود “سيارة وطنية” تعبر عن مدى القوة الاقتصادية التي تتمتعان بها؛ حيث يشير تقرير للمنظمة الدولية لصانعي السيارات OICAلسنة 2013 إلى أن إيران وصلت إلى تصنيع 1.3 مليون سيارة سنويًّا، وتركيا إلى 1.1 مليون سيارة سنويًّا، مما يضعهما في قائمة الدول العشرين الأوائل في تصنيع السيارات.
◇لكن لا تزال هذه الدول أمام منافسة شرسة من قبل كل من أوروبا واليابان والصين من حيث حجم الصادرات، وتكنولوجيا الإنتاج، حيث إن نسب التغير في طرح أنواع جديدة في الأسواق المحلية منخفضة جدًّا مقارنة مع المنافسة القادمة من شرق آسيا، وبالتحديد الصين، التي بدأت مع تركيا وإيران في نفس الفترة الزمنية للتصنيع المحلي.ويبقي السؤال الأبرز هنا هو أين تقع الدول العربية من خريطة تصنيع السيارات في العالم؟.
◇يشير نفس التقرير للمنظمة الدولية لمصنعي السيارات إلى أن المغرب تتصدر القائمة في المنطقة العربية بحوالي 167.452 سيارة سنويًّا (تجميعًا وليس تصنيعًا)، تليها مصر بحوالي 39.050 سيارة سنويًّا (تجميعا)، ثم أخيرًا تونس بحوالي 1.860 سيارة سنويًّا (تجميع). بينما تستورد المنطقة العربية ما بين 10% إلى 15% من الإنتاج العالمي للسيارات المقدر بحوالي 13.8 مليون سيارة سنويًّا، ويرجع ذلك إلى صغر حجم الصناعة لإشباع السوق العربية، وعدم قدرة مصانع التجميع الموجودة في الوطن العربي على إشباع الأسواق المحلية والإقليمية، فضلا عن إنتاج سيارة محلية تنافس في الأسواق العالمية كما هو الحال مع النماذج الصينية والتركية والإيرانية.
لذا فإن صناعة السيارات العربية خصوصًا لا تذكر بتاتًا في أيٍّ من التقارير العالمية لعدم وجود مقومات للصناعة بحيثياتها التكنولوجية واللوجستية في المنطقة. وإن وجدت فإنها لا تستطيع أن تنتج لعدم وجود الصناعات المكملة؛ حيث تعتمد تلك المشاريع على المورد الأجنبي لجلب المكونات وتجميعها محلياً.
◇والأسباب المؤدية إلى عدم وجود تلك الصناعة عديدة، لكن أبرزها دخول المنطقة في صراعات وحروب عدة أدت إلى نضوب الاستثمارات الأجنبية في المنطقة في فترة الستينيات والسبعينيات، والأزمات الاقتصادية العالمية التي أثرت سلبًا على المستويات الإنتاجية في المنطقة، والتي أدت إلى البحث عن اقتصادات متعثرة لضمان خفض تكلفة الإنتاج، من هذا المبدأ قامت مصانع تجميع السيارات في المنطقة، ويضاف إلى أسباب عدم وجود تلك الصناعة الثورات العربية التي أخرت عمليات الإنتاج للسنة الرابعة على التوالي بسبب عدم الاستقرار في السياسات الداخلية، وبالتالي أدت إلى تقلب في عمليات الإنتاج والاستثمارات والاستيراد.
ولكن إذا نظرنا للأمر بشكل آخر فسنجد أن الصين وإيران وتركيا كانت لديهم مشاريع للتجميع قبل انطلاقهم بسياراتهم الوطنية، حيث الخبرات المكتسبة من الاستثمارات الأجنبية أدت إلى شراء خطوط بأكملها، وإعادة تصنيعها، بحيث يتم تصنيع كامل الأجزاء الخاصة بالسيارة، وأدى ذلك إلى انتعاش الاقتصادات المحلية بانتعاش الصناعات المكملة، وتوفير فرص أكثر للتوظيف، وإشباع احتياجات الأسواق المحلية. وبالتالي يمكن لدول المنطقة العربية أن تتبع نفس النهج لبدء تلك الصناعة على الرغم من التجارب السابقة في مجال التصنيع العربي التي لم تكلل بالنجاح نظرًا لظروف سياسية واقتصادية خارجة عن إرادة المستثمرين. والدعم الحكومي مكون مهم في عملية بناء الصناعة بشكل عام، وصناعة السيارات بشكل خاص، حيث الاستثمارات والتسهيلات الحكومية من شأنها أن تحفز الاتجاه إلى تلك الصناعة، وبالتالي صنع قفزة اقتصادية للمنطقة.
التطور التكنولوجي للصناعة لا يستمر بشكل ثابت، لكنه يتطور بشكل تصاعدي، وفي حالة صناعة السيارات يصبح هذا التطور التصاعدي أكثر سرعة نظرًا للطلب الرهيب على تحسين الأداء، والإنتاج، وقيادة المنافسة بين المصنعين، وإثبات التفوق التكنولوجي؛ حيث تصب جميع تلك العوامل في تحسين الاقتصادات وبالتالي تطوير الصناعة بشكل أكبر. لكن هناك عوامل أخرى يجب وضعها في الحسبان، مثل: نضوب المخزون العالمي للبترول، والاتجاه العام لاستخدام الطاقة البديلة والمتجددة، حيث تتجه الاستثمارات الكبيرة في الصناعة نحو السيارات الكهربائية بالذات بعد التجربة الناجحة لشركة تسلا TESLAالأمريكية التي تخصصت في صناعة السيارات الكهربائية، ونجحت بشكل منقطع النظير في الولايات المتحدة؛ حيث بلغ حجم مبيعاتها أكثر من 24 ألف سيارة في ولاية كاليفورنيا وحدها خلال الربع الأخير من 2013.
ومن هنا توجد فرصة حقيقية للدول العربية ودول المنطقة لدخول عصر جديد من الصناعة توفر قدرًا كبيرًا من الحلول السريعة لمواكبة سرعة التطور والنمو في صناعة السيارات، وإتاحة الفرصة لدخول المنطقة العربية هذا المجال بشكل قوي. حيث تتمثل بعض هذه الحلول في الاستثمارات لجذب قواعد تصنيع ضخمة للسيارات ذات الطاقة البديلة، بالذات الطاقة الشمسية والكهربائية؛ حيث يمكن أن تصنع تكنولوجيا لتصدير هذه الأنواع من الطاقة لتحل مكان البترول (كما حدث مع النموذج الخليجي في صناعة النفط ومشتقاته).
والاستثمارات في الصناعات المكملة عامل مهم أيضًا لنجاح صناعة السيارات، حيث صناعات الإطارات، والمكونات المطاطية، والبلاستيكية، التي تدخل في مكونات السيارة نفسها؛ تعد صناعة قائمة بذاتها. ويضاف إلى ذلك الصلب، والإلكترونيات، والصناعات المتطورة مثل ألياف الكربون، وخلط المعادن التي يمكن أن تشكل المنطقة العربية مركزًا لهذه الصناعات. والاستثمار في المجال البشري لهذه الصناعة، بالذات في مناصب الإدارة، والتصميم، والبحث العلمي، والتكنولوجي، عن طريق إتاحة الفرصة للخبرات المحلية عن طريق توفير جميع الإمكانيات التي تساعد في دفع عملية الإنتاج من أبحاث، وتمويل، ودعم لوجستي، وإداري. حيث أصبحت المرحلة الحالية لا تتطلب الخبرة فحسب، بل التفكير الإبداعي، والوصول إلى حلول وتقنيات بطرق خلاقة تجعل من الصناعة رمزًا للتفوق التكنولوجي في المنطقة.
والدعم الحكومي جزء لا يجتزأ من المنظومة، حيث التسهيلات في بناء المصانع، وتخفيض الجمارك على استيراد المعدات الخاصة بالتصنيع، والإعفاءات الضريبية مقابل فرص العمل؛ توفر مناخًا خصبًا لتشجيع المستثمرين ورجال الأعمال للخوض في تجربة الشرق الأوسط لصناعة السيارات. وبحسب تقارير الاتحاد الدولي لمصنعي السيارات فإن المنطقة سوف تشهد طفرة في الصناعة إذا ما قررت أن تتبع النموذج الأمريكي، وتحولها من صناعة تجريبية وبحثية إلى صناعة كاملة مردودها المتوقع أكثر من 12 مليار دولار سنويًّا.
خلاصة القول إن السيارات صناعة ذات تطور مستمر، وتوفر سبلا للتطور والإصلاح الاقتصادي، وتجارب دول آسيا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية هي المثال الأبرز على ذلك. لكن بالنسبة للشرق الأوسط هناك دول استطاعت أن تدخل تلك الصناعة عن طريق محاكاة خطوط إنتاج لدول أخرى، لكن لايزال أمامها الكثير للحاق بمستوى وجودة الدول المنافسة الأخرى الأكثر خبرة وتمويلا في هذا المجال. وهناك المنطقة العربية التي تواجه تحديات كثيرة في هذا المجال، بدءًا من استثمارات متوسطة لتجميع سيارات من دول أخرى، وصولا إلى إمكانية عمل نقلة نوعية في ذلك المجال بشرط توافر الإمكانيات الإدارية والتكنولوجية، بالإضافة إلى الدعم الحكومي عن طريق الاستثمار في الطاقات البديلة، ودعم الصناعات المكملة للسيارات. حيث من المتوقع أنه إذا استثمرت المنطقة العربية في تلك المجالات فإنها لن تصبح فحسب من كبرى المناطق المصنعة، لكن قد تتحول إلى منطقة رائدة.

زر الذهاب إلى الأعلى