مقالات

¤ عاطف عبد الوهاب يكتب : ** إنهيار الأسطورة **

انهيار الدولار يؤكد نهاية أسطورة العملة الأمريكية كملاذ آمن.. 24 ساعة قاضية تعلن وفاة “الأخضر” وتوجه إنذارا للجميع بأن “المتغطى به عريان”.. وصد “أباطرة الانتقام” المعركة القادمة
بين ليلة وضحاها، هبط الدولار إلى أسفل سافلين، بعد أن حلق الأسبوع الماضى إلى أعلى عليين، وبرغم أن لهذا الهبوط السريع أضراره كما أن للصعود السريع أضراره، لكنى أعتبر تلك الحالة علامة جيدة فى التعاملات الاقتصادية، فالدولار لم يكن فى حالة “ارتفاع” وإنما فى حالة “انتفاخ”، أسهم فى هذه الحالة جشع التجار والمستوردين على حد سواء، وبعد أن كان الدولار فى الأمس القريب ملاذا آمنا لتخزين الأموال أصبح اليوم عبئًا على حامليه، كما أصبح آية من آيات خطورة المضاربة، فمن كان يملك مساء أمس مليون دولار أمريكى كان يمتلك وفق أسعار السوق السوداء 18 مليون جنيه مصرى، وما هى إلا ساعات قليلة حتى أصبحت الـ18 مليونًا 11.5 مليون فحسب، وسط توقعات باستمرار الهبوط إلى أجل غير مسمى.
هنا يجب أن نشير إلى أن هذا الانهيار كان متوقعًا، فالدولار لم يكن مرتفعًا كما يظن البعض وإنما كان منتفخًا متورمًا، وسبب هذا التورم هو لجوء البعض إلى اعتبار الدولار ملاذًا آمنا للأموال، فبدلا من أن يجتهد الجميع فى عمل مشروع أو زراعة أرض، تهافت الجميع إلى استحواذ الدولار بهدف التخزين أو الاكتناز، أو بسبب الاتجار، وهو الأمر الذى منح الدولار قيمة غير حقيقية، حتى صار تعويم الجنيه أملا لدى البعض عسى أن يسهم هذا التعويم الوصول إلى السعر الحقيقى للدولار فى مصر والذى تقدره بيوت المال العالمية من 10.5 إلى 11.5 جنيه مصرى، وبصرف النظر إلى ما ستودى إليه حالة الارتباك هذه من أضرار أو فوائد، وبصرف النظر أيضًا عما إذا كان الدولار سيشهد فى الأيام المقبلة انتفاخًا مرة أخرى أم هبوطًا، فالدرس الوحيد الذى يجب أن يتعلمه الجميع من هذا الموقف هو أن الدولار لم يعد ملاذا آمنا، وأنه مهما زاد أو علا لم يعد سوى “ورقة” ليست لها قيمة فى حد ذاتها، وهو فى كل الأحوال ليس أصلا ثابتا يعتمد عليه الواحد فى بناء خططه الاستراتيجية الاقتصادية، والكلمة العليا فى الاقتصاد هنا تكون للأصول الثابتة، للتراخيص الفعالة، وللمخصصات المحددة، للقوة العاملة، ولحجم الإنتاج، بقابلية السوق للاستثمار، وتوافر اليد العاملة، للموارد الطبيعية والمميزات الجغرافية، وكل هذه العوامل تتوافر بشدة فى مصر بشهادة غالبية بيوت الخبرة العالمية.
الآن يجب على الحكومة المصرية أن تتحصن ضد هجمات أباطرة الانتقام الذين خسروا بين ليلة وضحاها مئات الملايين نتيجة مضاربتهم فى الدولار، فمن الممكن أن تعمل هذه الفئة الجشعة على عرقلة هذا السقوط بأقذر الحيل، كأن تشترى بشكل جنونى لملايين الدولارات المطروحة فى السوق ابتغاء منهم أن يقللوا حجم المعروض فيرتفع السعر مرة أخرى، ومن الممكن أيضًا أن يسهم هؤلاء فى عمل حرب شائعات تدعى أن الدولار سيرتفع مرة أخرى بعد أسبوع أسبوعين، وهو الأمر الذى من شأنه أن يعيد الدماء الهاربة إلى “الجندى الأخضر” مرة أخرى فينتعش أو يتوحش، ولهذا يجب على الحكومة المصرية أن تعد العدة لمثل هذه التحركات وأن ترصد بعين الفاحص أى نشاط غير طبيعى فى هذا الحقل، وأن تضرب بيد من حديد على كل من يروج شائعة أو يرتبك فعلا غير مبرر من شأنه زيادة سعر الدولار.
قبل أن أنهى يجب هنا أن أشير إلى أن هذا الانهيار كما قلت فى البداية كان متوقعًا، ولعل ما يؤكد كلامى هذا هو ما كتبته فى يوليو الماضى تحت عنوان “المتغطى بالدولار عريان” وفى هذا المقال قلت أن أغلب الزيادة التى حدثت فى أسعار الصرف فى السوق السوداء هى زيادة وهمية أدى إليها تنامى الطلب، وليست قوة الدولار الحقيقية، والناس ستعرف أن المضاربة بالدولار أشبه بالمتاجرة بفقاقيع الهواء، وأن «المتغطى بالدولار عريان». ولذلك فإنى أؤكد لك أن مصلحتك الشخصية تتطلب عدم الانسياق وراء هذه الظاهرة الكاذبة، فسعر الدولار لا يحدده تاجر عملة أو حتى مجموعة تجار، وإنما يحدده قوة السوق ومعيار العرض والطلب، لذلك فإن الاستثمار فى شراء الدولار لا يجدى ولا ينفع، والأهم منه هو الاستثمار فى المشاريع الخاصة والتجارة الحقيقية التى تضمن ارتقاء السوق، وتضمن الأمان الحقيقى فى موارد ملموسة وأصول ثابتة واسم تجارى يجلب لصاحبه أضعاف ما يمكن أن يضيفه زيادة وهمية فى سعر الصرف، فالدولار فى النهاية «ورقة» لا تتحكم أنت فى سعرها ولا قيمتها، الذى يحدد قيمتها عدة عوامل خارجية لا ناقة لك فيها ولا جمل، ولو حدث تغير ولو طفيف فى موارد الدولار الخمسة «قناة السويس والسياحة والتصدير والاستثمار الخارجى وتحويلات المصريين فى الخارج» سيتأثر سعر العملة فورًا، وستجد نفسك وقد خسرت بلا سبب مثلما ربحت بلا مجهود.
فهل نستوعب الدرس؟

زر الذهاب إلى الأعلى